Emarat Alyoum

«لا لا لاند».. تحفة سينمائية من الطراز الرفيع

التاريخ:: 01 يناير 2017
المصدر: عرض: عبدالله القمزي
«لا لا لاند».. تحفة سينمائية من الطراز الرفيع

يأتي فيلم «لا لا لاند» في وقت تكاد الناس تفقد ثقتها بالقدرة الإبداعية لصناع الأفلام. يطلّ في وقت لم نعد نتوقع أن نرى جديداً في الأفلام.. في وقت أصبح المشاهد المتمرس يتوقع أحداث فيلم وهو مغمض عينيه لأن الكاتب والمخرج لا يتمتعان بالجرأة لمغادرة منطقة الأمان.

«لا لا لاند» يأتي ليخرج السينما من مأزق الإفلاس الفكري الذي تمر به، يأتي لتذكيرنا بأن هذا هو الأصل الذي لا يجب أن تحيد عنه السينما. يأتي لتذكيرنا بالعصر الذهبي لهوليوود، يأتي لتذكيرنا بما يجب أن نتوقعه من السينما، ولماذا نذهب إليها.

«لا لا لاند» تلك التحفة الرائعة، كلاسيكية من الطراز الرفيع، كلاسيكية من أول لقطة إلى مشهد الختام. تحفة فنية مبهجة راقصة مرحة تأخذك إلى عمق خيالها وتعيدك إلى عالمك الواقعي لتتركك وأنت لا تريد تركها.

ملحمة كالحلم

«لا لا لاند» قصة عن الشغف بالفن وكيف ينحرف الفنان بسهولة عن أحلامه في وقت الشدة واليأس. «لا لا لاند» عن الحاجة إلى رفيق درب يشاركك الحلم ليدفعك مجدداً إلى الطريق الصحيح.


مشهد لا يُنسى

في نهاية الفيلم هناك لقطة لميا تلقي نظرة أخيرة على سباستيان، مشهد يغني عن 1000 كلمة، نظرة رضا وعتب وشكر وتقدير وحب، كل تلك المشاعر في مشهد واحد مؤلف من نظرة واحدة لا أكثر، مشهد لا يُنسى.

«لا لا لاند» ملحمة النوستالجيا والخيال الجامح عندما يوظف بالطريقة الصحيحة، عندما يكون الممثلون على سجيتهم، عندما يمتزج الحوار بالغناء في صورة تجعلنا نهتم به. «لا لا لاند» ملحمة الحب والطموح والأحلام هي كالحلم الذي لا تريد الاستيقاظ منه، هي الخيال الذي يداعب المشاعر والأحاسيس بالقدر الكافي لتصديقه رغم أنه خيال.

«لا لا لاند» يبدأ بكلمة «سينما سكوب» المقوسة التي كانت مستخدمة في أفلام الخمسينات (الفيلم يستحضر أجواء الخمسينات لكن أحداثه في الزمن الحالي)، ثم نشاهد مجموعة أشخاص عالقين في زحمة الشارع يخرجون من سياراتهم يرقصون ويغنون في لقطة واحدة طويلة دون أي قطع.

الأغنية تُسمى «يوم آخر مشمس» عن الآمال والطموحات التي تأتي مع صباح كل يوم لهؤلاء الحالمين أن يكونوا فنانين ونجوماً. أسلوب المخرج ديميان شازيل (أخرج الفيلم الرائع ويبلاش منذ عامين) يختلف عن فيلمه السابق وعن كل الأفلام الغنائية، إذ يعمد إلى إظهار أجساد الراقصين بشكل كامل بدل اللجوء إلى لقطات الوسط وتلك القريبة. تنتهي رقصة المقدمة بدخول الشخصيات الرئيسة عازف البيانو سباستيان (رايان غوسلينغ) والممثلة ميا (إيما ستون). الاثنان طموحان للغاية على الرغم من عيوبهما وسخريتهما من عيوب بعضهما بعضاً لكننا نعلم اتجاه الفيلم بسبب قوة الكيمياء أو القوة التفاعلية بينهما.

المشهد الرئيس بينهما ساحر، إذ نراهما يمشيان بينما الشمس تغرب خلف تلال هوليوود، يبدآن برؤية نقاط التشابه بينهما. ميا تعبت من تجارب الأداء التي لا تستطيع النجاح في أي منها ما يعرضها للإحراج، وفي أحد تلك المشاهد نرى منتجة أفلام تعبث بهاتفها المحمول غير آبهة بميا الطموحة الحالمة الواقفة أمامها بانتظار إشارة البداية.

سباستيان على الجهة الأخرى يحلم بفتح ناديه الخاص لموسيقى الجاز بدلاً من أن ينتج ألبومات غنائية والعزف في حفلات. يتولد انجذاب فوري بينهما، وهنا يبدأ الفيلم تدريجياً في الدخول إلى خانة الخاص والمتميز والساحر. سباستيان وميا يغنيان معاً، ويتحاوران حول موضوع واحد وهو أنهما ليسا زوجين أو غير مرتبطين، وكيف تمضي تلك الليلة الفاتنة دون أن يكون كل واحد منهما مع شريك حياته الحقيقي.

لكن - وهنا تكمن براعة شازيل - جسداهما يحكيان قصة أخرى على شكل رقصة منسقة مرتبة متسقة لا ينحرف فيها سباستيان أو ينثني إلا وتحاكيه رفيقته كأن لغة الجسد لا تتفق مع لغة الحوار. وهنا يكسر شازيل قاعدة الأفلام الغنائية التي تتسق فيها لغة الحوارات الغنائية مع الرقصات.

جهد جبار

ستون وغوسلينغ ليسا مغنيين ولا راقصين محترفين بل ممثلان شابان عمرهما الفني قصير، أقل من عقدين بالنسبة لغوسلينغ وأقل من عقد بالنسبة لستون، وهنا تكمن براعة شازيل للمرة الثانية. ستون وغوسلينغ يغوصان في أعماق الشخصيتين ويبذلان جهداً جباراً في أداء الرقصات المتناسقة جداً، ويقعان في الحب من خلال تلك الرقصات مع الحفاظ على العلاقة التفاعلية بينهما.

ودعونا نحلل الأسباب، ستون وغوسلينغ هما الشخصان المثاليان لهذين الدورين، فهما من الممثلين الشباب القلائل الذين لم يتم تجنيدهم لمصلحة أفلام الأبطال الخارقين (ستون ظهرت في سبايدرمان لكن في دور آدمية لا تتمتع بقوى خارقة)، وهما من القلائل الذين يهتمون بالسينما الفنية أكثر من الشعبية.

غوسلينغ سلس و«كاريزماتي»، ستون جميلة وذكية، وهاتان الصفتان تجعلهما نجمين قادرين على إعطاء الفيلم عندما يتطلب منهما الدور عمقاً، قادرين على جعل شخصياتهما غنية عندما يتطلب منهما الأمر التحول من الحوار العادي إلى الغنائي والعكس، وهنا تكمن براعة شازيل للمرة الثالثة في الانتقال السلس جداً بين هذين الجانبين، بل فلنقل القفز برشاقة بينهما دون أن يفقد الفيلم توازنه، ومن هنا يستمد الفيلم قوته وزخمه.

«لا لا لاند» قصة عن الشغف بالفن وكيف ينحرف الفنان بسهولة عن أحلامه في وقت الشدة واليأس. «لا لا لاند» عن الحاجة إلى رفيق درب يشاركك الحلم ليدفعك مجدداً إلى الطريق الصحيح.

«لا لا لاند» أفضل فيلم موسيقي يصل إلى الصالات منذ وقت طويل جداً. «لا لا لاند» أفضل من «شيكاغو» وأفضل من «ليتل شوب أوف هورورز» 1986، وأفضل من كل الأفلام الغنائية الحديثة، وإذا أردنا عقد مقارنة عادلة، فهو في مصاف الكلاسيكيات من أيام «روجرز وآستير 1933-1949»، نسبة إلى أيقونات الأفلام الغنائية آنذاك جنجر روجرز وفريد آستير.

توازن مثالي

غناء، شازيل يحصل على المطلوب من غوسلينغ وستون. أما رقصاً، فإن شازيل يحصل على أكثر من المطلوب منهما (كلاهما مرشح أوسكار سابقاً). شازيل استطاع تحقيق توازن مثالي بين الدراما والكوميديا من جهة، والدراما والغناء من جهة أخرى. شازيل اتخذ قراراً حكيماً بعدم سلك درب مارني نيكسون، وهو يعني أنه اعتمد على ممثليه في الغناء بدل استخدام صوت مغنيين للتغطية على صوتيهما، ما يشير إلى أنه فضل الواقعية والأصالة على التلميع. وهنا تكمن براعة شازيل للمرة الرابعة، وذلك بكسره تقليد أفلام الخمسينات الغنائية التي كانت توظف مغنين للتغطية على أصوات الممثلين.

«لا لا لاند» أفضل فيلم شاهدناه في الصالات هذا العام، وهو المرشح الأقوى لنيل جائزة الغولدن غلوب في فئة الأفلام الكوميدية أو الغنائية، وبالتأكيد مرشح قوي أيضاً للفوز بالأوسكار هذا العام خصوصاً أنه يجدد صنف الأفلام الغنائية.

«لا لا لاند» قصة حب غير عادية فهو لا ينتهي بالطريقة المعتادة للأفلام الغنائية بل ينقلب قبل نهايته بقليل لنرى الأحداث من منظور آخر أشبه بحلم عاشق قبل العودة إلى الواقع، أو الخيال، أو ربما الاثنين معاً، هذا الفيلم تحفة كلاسيكية من الطراز الأرفع، هذا الفيلم رائع ويستحق المشاهدة مرات ومرات.