من جيمس بوند إلى أفلام «انتقام الرجل الواحد»

سينما «الأكشن والمغامرات» تحطّم الجمود وتتخطى 5 عقود بسرعة وتميز

صورة

بينما كانت السينما الأميركية، في سبعينات القرن الماضي، تتميز بنوعية من الأفلام تحمل بصمات خاصة لمخرجيها وتواقيعهم الفنية، شكلت الثمانينات والتسعينات عودة نموذج هوليوود الكلاسيكي لسينما الصنف الخاص أو ما يسمى Genre Cinema، وكذلك أعادت تلك الحقبة وما بعدها (1980 - 2000) إطلاق معادلة هوليوود القديمة لإنتاج أفلام موجهة لأكبر شريحة ممكنة من الجمهور.

ومن أهم علامات عقدَي الثمانينات والتسعينات المتعلقة بسينما صنف الأكشن والمغامرات، إنتاج فيلم «البلوكباستر»، وهو فيلم ذو ميزانية ضخمة يتناول حدثاً واحداً فقط من بدايته إلى نهايته، ويمنح الجمهور تجربة مشاهدة مثيرة، مبتعداً عن التركيز على الحبكة والأداء، لأن الهدف الأول هو تحقيق الأرباح. ومن أهم أفلام «البلوكباستر» في تلك الحقبة «حرب النجوم - جورج لوكاس 1977»، وRaiders of the Lost Ark لستيفن سبيلبيرغ عام 1981.

الفيلمان تميزا بقصة تعود جذورها للحقبة الكلاسيكية الممتدة من العشرينات حتى الستينات من القرن الماضي، ومؤثرات خاصة حديثة جداً. هذان العاملان شكلا نموذجاً ثابتاً أطلق عليه نموذج لوكاس - سبيلبيرغ لم تتمكن الاستوديوهات من تجاهله في حقبة الثمانينات.

مع الجذور

ولو تتبعنا جذور فيلم الأكشن الحديث الذي نشاهده اليوم لوجدناه يعود إلى حقبتين مهمتين: المذكورة أعلاه، والأهم وهي الأصلية، حقبة الستينات، وتحديداً فيلم Dr. No عام 1962، وهو أول أفلام العميل السري البريطاني «جيمس بوند 007». ذلك الوقت كان ذروة الحرب الباردة، وكان جون كينيدي رئيساً للولايات المتحدة، لكن السياسة (المتعلقة بالحرب الباردة تحديداً) لم تكن حاضرة في قصص أفلام الأكشن، إذ حرص منتجوها على تجسيد عناصر الشر في شكل منظمة سرية (منظمة سبيكتر في جيمس بوند، وهايدرا في كابتن أميركا اليوم)، بدل أن تكون دولة أو جنسية معينة، مراعاة للجماهير حتى في البلدان التي لا تتوافق سياسياً مع دول المعسكر الغربي الرأسمالي.

خلال أكثر من 40 سنة من أفلام جيمس بوند (حتى كازينو رويال 2006)، تصدى هذا الأخير لأنواع من العصابات المتطورة المعقدة، التي يتجاوز تفكيرها مجرد السيطرة على مدينة، ليصل إلى التحكم في العالم، زعيم تلك العصابات غالباً ما يكون مشابهاً لعناصر الشر في القصص المصورة (نرى النمط نفسه في أفلام كابتن أميركا اليوم) مراوغاً ومصاباً بجنون العظمة.

مقاييس ونطاقات أفلام بوند كلها ذات طابع عالمي: العالم يتعرض لخطر مروع، وينتظر تدخل بوند لإرجاع المياه إلى مجاريها، صحيح أنه جاسوس بريطاني المولد والمنشأ، لكن رؤيته كونية وأذواقه قارية، ويوظّف أحدث التقنية (معظمها خيالي) للتغلب على أعدائه ودائماً في الثواني الأخيرة.

أفلام بوند تتبع معادلة محددة: إغراق المشاهد في لقطات أكشن (Set pieces) مكررة بأساليب مختلفة تتميز بالإبهار البصري، ومقدمة استعراضية وأغنيتها الممنتجة بصورة خلابة، وهذا السبب الذي جعلها شعبية جداً، وقابلة لإعادة الإنتاج لأربعة عقود متتالية. خلال هذه الفترة تحول بوند في السينما تدريجياً إلى رمز أسطوري وبطل أميركي بلهجة بريطانية، يتمتع بمواهب خاصة، يرفض الخضوع لسلطات المؤسسة الاستخباراتية، ولا يتقيد بالقوانين.

جيل جديد

1

مليار و344 مليون دولار إيرادات أفلام «داي هارد».


335

مليون دولار إيرادات فيلم «ذا روك».


تحول بوند في السينما تدريجياً إلى رمز أسطوري وبطل أميركي بلهجة بريطانية يرفض الخضوع لسلطات المؤسسة الاستخباراتية ولا يتقيد بالقوانين.


953

مليون دولار إيرادات أفلام السلاح الفتاك.


86

مليون دولار إيرادات فيلم «جون ويك».


الفرق بين أفلام بروكايمر - سيمبسون وأفلام سيلفر أن الأولى لا تركز على قوة عضلات العنصر الذكوري الأبيض، بل على كاريزما الشخصية الأميركية من أصول إفريقية.

شهد عقد الثمانينات بروز جيل جديد من المنتجين الذين تخصصوا في سينما الصنف، وتحديداً الأكشن، كان أبرزهم جويل سيلفر وجيري بروكايمر ودون سيمبسون. لعب هؤلاء الثلاثة دوراً بارزاً في تحديث سينما الأكشن ونقلها من قالب الستينات إلى الثمانينات والتسعينات. تحالف سيلفر مع المنتج المستقل لورانس غوردون وأنتجا The Warriors (1979) و48 ساعة (1982) وStreets of Fire (1984)، والثلاثة من إخراج وولتر هيل.

انفصل سيلفر واتجه لإنتاج سلسلة من أنجح أفلام الأكشن من آخر الثمانينات حتى نهاية القرن الـ20، حملت بصمته الخاصة، وهي حسب الترتيب الزمني: «السلاح الفتاك 1» (1987)، «داي هارد 1» (1988)، «السلاح الفتاك 2» (1989)، «داي هارد 2» (1990)، «السلاح الفتاك 3 و4» (1992 و 1998)، «ذا ميتريكس» (1999) وروميو مست داي (2000).

تميزت أفلام سيلفر بسمات خاصة، مثل: البطل يكشف صدره، أو بملابس بلا أكمام تبرز عضلاته، وبمهارات عادية أو مميزة في القتال اليدوي، ويواجه عصابة أو مؤامرة (تأثراً بالخطاب السياسي للرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان). البطل دائماً يبدأ من موقف دفاعي وينطلق منه إلى الهجوم، يدخل في مطاردات ويضطر إلى استخدام أسلحة فوق تقليدية وبصورة غير منتظمة للتغلب على خصمه، إلى درجة أن هذه الأفلام اكتسبت تسمية خاصة هي Male Rampage film أو أفلام الثورة الذكورية. كما تميزت أفلام سيلفر بعلاقة صداقة بين شخصيتين متنافرتين تعملان معاً، ففي السلاح الفتاك لدينا مارتن ريغز (ميل غيبسون) شرطي أبيض حاد المزاج متهور غير متقيد بالقوانين، دائماً يدع الأمور تصل إلى حد يقترب من الانفجار قبل أن يتخذ قراره. في مقابله نجد روجر مورتو (داني غلوفر) شرطي من أصول إفريقية معتدل الطباع لديه عائلة وعلى مشارف التقاعد.

السلاح الفتاك

أفلام «السلاح الفتاك» و«داي هارد» - وهي أفلام تعتمد على سرعة سير الأحداث أكثر من عاملي المنطق والتشويق - توازن بين المعادلة (علاقة مودة بين شخصيتين متنافرتين) والقصة (حرب فيتنام تدخل في سياق السلاح الفتاك). موت زوجة ريغز يسبق الأكشن في الفيلم الأول، ونفهم أنه ليس ممكناً أن تأخذ امرأة أخرى مكانها، إلا أن روجر ينجح في سد فراغ صاحبه. بالمقارنة في «داي هادر» يسافر الضابط الأبيض المشاكس جون ماكلين (بروس ويليس) ليلاقي زوجته في لوس أنجلوس فتقع أزمة برج ناكاتومي بعد دخوله. رغم انتصار ماكلين على الإرهابيين وإنقاذ زوجته، إلا أن أنظاره بعد الصراع تحولت إلى ذلك الشرطي من أصول إفريقية آل باول (ريجينالد فيلجونسون) الذي كوّن معه علاقة صداقة بدأت من رمي ماكلين جثة الإرهابي ماركو على سيارة الشرطة، ليلفت انتباه باول إلى أزمة البرج.

بعد هذا المشهد تتكون علاقة صداقة بين الاثنين عبر جهاز اللاسلكي، وتتوطد أكثر في المشهد الأخير بعد أن أردى باول كارل (راقص الباليه أليكساندر غودونوف) قتيلاً، وهو الرجل الثاني في عصابة هانز غروبر الذي حاول وهو يحتضر قتل ماكلين في غفلة منه (لدينا النهاية نفسها بالضبط في السلاح الفتاك 1 و2).

المعادلة تستمر في كل الأجزاء اللاحقة من سلسلة «السلاح الفتاك»، لكنها تمر بتغييرات في «داي هارد»؛ إذ يظهر باول في الجزء الثاني (مشهد واحد قبل أن يحل مكانه آرت إيفانز). ثم يدخل ساميول إل جاكسون في الجزء الثالث بشخصية زوس كارفر (الأخير ليس شرطياً وإنما رجل عصامي من أصول إفريقية اختار مساعدة ماكلين في موقف واحد فتورط معه في معركته ضد عصابة سايمون غروبر). يذكر أن ظهور جاكسون إلى جانب ويليس في «داي هارد 3» كشخصيتين متنافرتين أجبرتهما الظروف على العمل معاً، يعد تجسيداً كلاسيكيا للمعادلة، والأفضل في عقد التسعينات وإلى اليوم بالنسبة لأفلام هذا الصنف.

كما تتميز أفلام سيلفر بصمود أبطالها حتى النهاية، وعادة ما يظهر البطل في المشهد الأخير غارقاً في الدماء، عاري الجسد لإبراز عضلاته ودائماً يخوض معركته الأخيرة يدوياً من دون أسلحة (المشاهد الأخيرة من «داي هارد 1 و2 و3»، «السلاح الفتاك 1 و2 و4») وبعد نهاية المعركة يستوعب البطل مدى صلابته كأنه أعاد اكتشاف نفسه.

أعمال هجينة

أما الشريكان جيري بروكايمر ودون سيمبسون فقد وضعا بصمتهما الخاصة كذلك على أفلام الصنف (سينما الأكشن) التي أنتجاها. ركز هذان الشريكان على أفلام هجينة جمعت بين الأكشن والكوميديا مثل «بيفيرلي هيلز كوب 1 و2» (1984 و1987) و«باد بويز 1 و2» (1995 و2003). الفرق بين هذه الأفلام ونظيرتها من أفلام سيلفر أن هذه لا تركز على قوة عضلات العنصر الذكوري الأبيض، بل على كاريزما الشخصية الأميركية من أصول إفريقية: إيدي ميرفي وويل سميث ومارتن لورانس. الشخصيات هنا تسخر من كل شيء وكل أحد، لكنها في النهاية تثبت جدارتها في التغلب على التحديات.

التوازن بين لامبالاة الشخصيات واتخاذها موقفاً حازماً، دائماً نجده في صلب أفلام هذا الثنائي، ولو أخذنا فيلمي Top Gun وDays of Thunder عامي 1986 و1990 نجد أن بطلهما توم كروز يحلق بطائرة حربية أو يتسابق بسيارة، حيث إن اهتمام الشخصية في البداية يتمحور حول إثبات نفسها في وظيفة محفوفة المخاطر. الفيلمان يتميزان بمعادلة واحدة: بطل طائش متسلق، يعاني نكسة لرفضه التقيد بالقوانين، ثم يتعلم كيف يتعاون مع زملائه. أيضاً بعكس أفلام سيلفر، التي تروج لاستقلالية أبطالها واعتمادهم على أنفسهم بأي ثمن، فإن أفلام بروكايمر - سيمبسون تروج للعمل الجماعي والتضحية.

أفلام الثنائي وصلت ذروتها في فيلم «ذا روك» (1996) عن منشقين عسكريين في الجيش الأميركي يحتجزون سياحاً رهائن في جزيرة الكاتراز، وينصبون صواريخ محملة بغاز أعصاب مميت لإطلاقها على مدينة سان فرانسيسكو، مطالبين واشنطن بمراجعة سياستها في التعامل مع ضحايا فيتنام من الجيش.

شخصيات «ذا روك» تأتي من خلفيات متباينة: الكولونيل فرانسز هاميل (إيد هاريس) مدبر العملية الإرهابية، جون ميسون (شون كونري) جاسوس بريطاني سابق نجح في الهروب من السجن، وستانلي غودسبيد (نيكولاس كيج) عالم لدى الحكومة.

مثل «السلاح الفتاك»؛ فإن «ذا روك» يوظف حرب فيتنام سياقاً له، لكنه لا يحوي شخصيات شريرة، وحتى في اللقطات التي يظهر فيها المنشقون العسكريون، نسمع في الخلفية موسيقى توحي بالمجد والشرف (تأليف هانز تزيمر)، ويمجد الفيلم لحظة سقوطهم في المواجهة عند اقتحام الجزيرة لتحرير الرهائن بلقطات بالحركة البطيئة، وأما زعيمهم هاميل فيقتل غدراً من قبل شركائه، بعد أن يرفض قتل أبرياء. مطالب هاميل عمرها 20 عاماً، وقت صدور الفيلم؛ ما يدل أن منتجيه (وليس بالضرورة الجمهور) عاصروها وتأثروا بها، وهي تذكّر الشعب الأميركي بالخروج المخزي من فيتنام، وبالتوغلات السرية غير القانونية المرتكبة من قبل إدارة الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون (1969-1974) في دولتي كمبوديا ولاوس المجاورتين لفيتنام قبل نهاية الحرب. هاميل وصل مرحلة اليأس، فهو يطالب الحكومة بتكريم جنود سقطوا في عمليات سرية غير معترف بها، وتعويض ذويهم.

ظاهرة «رامبو»

ومازلنا في سياق فيتنام، إذ تمتد جذور «ذا روك» و«السلاح الفتاك» إلى سلسلة أفلام رامبو في الثمانينات (1982-2008). رامبو بدأ بطريقة غريبة وغير متوقعة، إذ تحول من فيلم بسيط إلى ظاهرة سينمائية، بعنوان First Blood، ومقتبس من رواية لديفيد موريل عن محارب عائد من فيتنام، ويعاني اضطرابات نفسية، يهرب من الشرطة ويوظف خبرته العسكرية في التصدي لمحاولات إعادة اعتقاله. نجح الفيلم بسبب عاملين، الأول: شعبية الممثل سلفستر ستالون المستمدة من أفلام روكي، والثاني: قدرة الفيلم على تهييج الذاكرة العسكرية لمحاربي فيتنام القدامى في الجيش، وهو ما أطلق موجة سميت «التصالح الأميركي مع عقدة فيتنام» في الأجزاء اللاحقة التي ركزت على تعاون الحكومة مع رامبو لتحرير أسرى الحرب هناك.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

ستالون ظهر بجسمه العاري المفتول العضلات في رامبو مرتدياً حزاماً من الرصاص، ومتقلداً سلاحاً رشاشاً، وهذه الصورة بالضبط ألهمت المنتجين المذكورين آنفاً للاستعانة بمدربين متخصصين في تجسيد أبطالهم في سلسلتي «السلاح الفتاك» و«داي هارد» بدءاً من الثمانينات، ودخولاً في التسعينات والقرن الجديد، حيث شاهدنا وجهاً جديداً بجسد نحيف في فيلم بيل آند تيد إكسلنت أدفينتشر (1989) يتحول إلى كيانو ريفز الصلب العنيف في فيلم Speed (1994) وذا ميتريكس (1999-2003) وصولاً إلى جون ويك (2014).

تويتر