فيلم عرض في «قسم المنتدى ببرلين السينمائي».. وحظي بإشادات

«آخر أيام المدينة».. وأي مــــــدينة

أي مدينة هذه التي أخذ الجمهور إليها المخرج تامر السعيد، في الفيلم التسجيلي الروائي الطويل الأول له «آخر أيام المدينة» (من إنتاج مصر، وبريطانيا، والإمارات من خلال صندوق سند)، والذي عرض للمرة الأولى في قسم المنتدى بالدورة الـ66 من مهرجان برلين السينمائي الدولي، التي أعلنت نتائجها أول من أمس، هي كل المدن على ما يبدو، ليست فقط القاهرة، إذ تختصر وضع الوجع العربي في مكان محدد الملامح والتفاصيل، لدرجة أنك (المشاهد) من الممكن أن تصرخ وتقول: «هذه المدينة لي».

«آخر أيام المدينة» فيلم أشبه بطقس دعاء لمكان فاض به وانتفض، حيث الحكاية كلها في عام 2009، حكاية من الممكن أنها مرت بذاكرة، قبيل أول هتاف صرخت به حركة كفاية المصرية، وقبيل أن يقرر الشارع أن يقف ويهتف «ارحل»، هي مدينة عاد معها كثيرون من العرب الذين شاهدوا الفيلم في برلين وامتلأت القاعة بهم، عادوا إلى رؤية تفاصيل كانت على ما يبدو تمر مرور الكرام، لكنها دقت ناقوس الغضب حينها.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.

الفيلم نقطة تحول في تاريخ السينما المصرية، حسب الناقد السينمائي سمير فريد الذي استغرب ألا يعرض هذا الفيلم ضمن المسابقة الرسمية في المهرجان، مؤكداً أنه كان سينال الجائزة الكبرى لأفضل فيلم طويل. وقال: «من الغريب، وكم في المهرجانات من غرائب، ألا يعرض الفيلم في مسابقة الأفلام الطويلة وفيها العديد من الأفلام التي لا تثبت لمجرد المقارنة مع فيلم تامر السعيد، وهو أول أفلامه الروائية الطويلة، وسيكون من الغريب أيضاً ألا يفوز بجائزة أحسن فيلم طويل أول لمخرجه»، مضيفاً: «على أية حال، فالخاسر مسابقة المهرجان، والخاسر سيكون لجنة تحكيم جائزة الفيلم الأول، وسيظل عرض أي فيلم في مسابقة أي مهرجان معياراً من المعايير، وليس المعيار الوحيد، وكذلك الأمر بالنسبة للجوائز».

حكاية

أنت كمشاهد أمام حكاية شاب اسمه خالد، يريد أن يصنع فيلماً، مشكلة خالد أنه لا يعرف من أين يبدأ ومن أين ينتهي، ويقرر إقحام المشاهد بكل ذلك الارتباك، إذ يقرر البعض أنه يجب إنهاء الفيلم «في اللقطة التي جمعت خالد بحبيبته ليلى قبل وداعها» ليرد آخر: «أعتقد أن لقطة هدم المنزل هي نهاية الفيلم». أراد المخرج - على ما يبدو - أن يكون للمشاهد رأي في كل مرحلة يمر بها الفيلم، مع وجوه مألوفة للبعض، اختلط معها تحديد التسجيلي والروائي، فبين التمثيل والجدية، اكتملت ملامح المدينة، خصوصاً أنها تخللت حكاياتها كلاً من بغداد وبيروت، ولهاتين المدينتين خاصية، لها علاقة برغبة العيش فيهما أو الهرب منهما، وقد استطاع مدير التصوير اللبناني باسم فياض أن يوصل معنى مدينة بيروت، عندما قال «بيروت مدينة كذابة». في المقابل؛ يظهر العراقيان حسن (حيدر الحلو) من بغداد، وطارق (باسم حجر)، أحدهما يعيش في برلين بعد أن قرر الهجرة، لأنه شاهد يوماً خط دم يسيل من ميت ملقى على ظهر سيارة: «توقعت أن سيأتي يوم وأكون أنا صاحب هذا الخط» فقرر الرحيل، ويحاول إقناع صديقه الباقي في بغداد بالهجرة أيضاً؛ ليرد عليه أنه لا يستطيع التنفس بلا بغداد، ويكون له ذلك فيموت فيها. تفاصيل هذه الشخصيات الثلاث من الممكن أن يعتبرها البعض مقحمة على حكاية مدينة القاهرة، لكن الذكاء في النص وإدارة المشاهد للمخرج السعيد حيث استطاع أن يوصل شكل المدن كلها بكل عشوائياتها وتخبطاتها، فالمدن تشبه بعضها إذا كانت مقهورة، لذلك قرر خالد - الذي يؤدي دور المخرج - أن يطلب من أصدقائه تصوير مدنهم كي يكتمل الفيلم.

ألم

عندما قرر خالد أن يحكي عن المدن: «القاهرة، بغداد، وبيروت»، كان لابد من ظهور سابق لشخصيات متنوعة في الفيلم، اختصرت بتنهيدات وكلمات متناثرة، ودموع أحياناً. مدينة الإسكندرية كانت حاضرة مع شخصية حنان (التي مثلتها حنان يوسف)، والتي تتهرب دائماً من الحديث عنها، كأنها تقول: إنها لم تعد مرئية. في المقابل المدينة بالنسبة للسعيد ليست فقط شوارع وسماء وأرضاً، بل هي وجوه وحالات، مثل الحالة التي حدثت مع خالد، عندما قرر أن يزور «أبلة فضيلة» في مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري، لتقول له ذكرياتها مع والده الشاعر الراحل، الذي قدم العديد من كلمات لأشهر الأغاني في برنامج «أبلة فضيلة»، وتكون المفاجأة أنها لا تتذكر والده.. فهنا المدينة من لحم ودم وذاكرة، وثمة شيء له علاقة بالروح، تجسد في علاقة الحب التي ربطت خالد بليلى، التي لن تعرف تفاصيلها، كيف بدأت وكيف انتهت، لكنك ستدرك أن ثمة شيئاً له علاقة بالمدينة وما آلت إليه تسبب بكل هذا البعد، إذ تقرر ليلى الهجرة، ويقرر خالد هو الآخر تغيير المنزل، المطل على حي فيه الكثير من الصراخ، إذ إنه لم يجرؤ يوماً على فتح النافذة، التي كانت شاهدة على ضرب رجل لزوجته بكل قسوة، وثمة شكل آخر للمدينة مع شخصية المطربة مريم صالح التي توفي والدها في حريق مسرح بني سويف؛ وهي تؤكد أن حياتها لم يعد لها طعم، كأنها تقول: إن المدينة خذلتها لأنها لم تعاقب الجناة.

رصد

قالت الناقدة السينمائية د. أمل الجمل «يعيب الفيلم أن (تامر) السعيد اكتفى بمجرد الرصد، كان يشاهد ويتأمل المدينة في لحظات ما من حياتها، والرصد لا يعتبر سلبياً في بعض الأحيان، لكنه يصبح كذلك حينما يقدم كثيراً من الصور من دون أن يضرب بقوة ليعمقها أكثر، ليخلق دلالات وأبعاداً أخرى».

انتفاضة المدينة

«كيف لك أن تستمع إلى الصمت في ضجيج القاهرة»، عبارة مرت في أحداث الفيلم المتخم بالتفاصيل التي لا يملها المشاهد، في مدة زمنية تجاوزت الساعتين، فلن «تسمع الصمت» من خلال سمسار العقارات الذي يأخذ خالد كل يوم ليريه الوهم من منازل، أو من خلال ضرب رجل لزوجته على أسطح إحدى العمارات، ولن «تسمعه» أيضاً ووالدة خالد تحارب الموت، ولا من قبلة تركتها ليلى مع حبيبها خالد قبل أن تهاجر، بل «ستسمع الصمت» عندما يقرر خالد فتح النافذه، ومع أول تظاهرة لـ«كفاية» ضد التوريث، ومع أول شهيد رأي، ستسمع الصمت مع كلمة واحدة اسمها الحرية مع آخر أيام المدينة قبيل ثورة 25 يناير.

تويتر