«قرطاج» مستمر متحدياً الإرهاب بالإرادة والسينما

«شبابيك الجنة».. إطلالة على الشغف والفقد

الفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرج فارس نعناع. من المصدر

«سيستمر العرض» هذا ما طلبه الجمهور بعد دقائق قليلة من العمل الإرهابي، الذي استهدف حافلة للحرس الرئاسي في الشارع الموازي لشارع حبيب بورقيبة، الذي يشهد فعاليات الدورة 26 من مهرجان قرطاج السينمائي الدولي، فالازدحام أمام قاعة الكوليزيه الأكبر حجماً كان أقل هذه المرة، وهنا بدأت علامات الاستفهام التي بددها صوت أخبار الموت الناجم عن هذا الانفجار، الذي راح ضحيته 12 شهيداً.

العروض مستمرة

أكد مدير الدورة 26 لأيام قرطاج السينمائية، إبراهيم اللطيف، أنه «لن يتم إلغاء عروض الدورة، بعد الحادث الإرهابي»، في إشارة إلى حادث التفجير الذي أسفر عن استشهاد 12 عنصراً من الأمن الرئاسي وإصابة 20 آخرين.

وقال اللطيف «يجب أن نتحد جميعاً تحدياً للإرهاب»، مشيراً إلى أن إدارة المهرجان لم تتلق أي إشعار من وزارة الداخلية أو وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، يدعو إلى إيقاف بقية عروض هذه الدورة. وأضاف أن العروض ستتواصل بجميع القاعات طبقاً للبرنامج.

سيستمر العرض للفيلم التونسي «شبابيك الجنة» كصوت أراد أن يكون وقعه أعلى من الرصاص، وكان متسقاً برابط عربي موجود في القاعة يدعم الفن ومحبي الحياة، وبدأ يغني مع التوانسة النشيد الوطني الذي تخلله البيت الأشهر «إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر». الفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرج فارس نعناع، وبطولة لطفي العبدلي وأنيسة داوود، ويشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، والذي سيعرض قريباً أيضاً ضمن مسابقة «المهر» لأفضل فيلم روائي طويل في مهرجان دبي السينمائي المقبل. كان وقع الفعل على المشاهدين مختلفاً، بسبب تزامنه مع الانفجارات التي حدثت قبل عرضه بدقائق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بسبب الموضوع القائم عليه حكاية الفيلم المصنوع بإحساس عال وبتقنية ذكية لمفهوم العمل الروائي الطويل الأول، فهو يحكي معنى الفقدان، وتأثيره في من مازال على قيد الحياة، من خلال نموذج لزوجين وابنتهما، يعيشون بطريقة تؤكد خصوصية العلاقة بينهم، والكيمياء الحاضرة، والشغف والحب، كل هذه المشاعر كانت حاضرة بقوة، خصوصاً بين الزوجين اللذين لا يفكران إلا بمستقبل مختلف لابنتهما الوحيدة، مع أخذ وجذب في اختلاف طريقة التربية، الا أن كل هذا يذهب هباء بمجرد فكرة أن تلك الطفلة لم تعد موجودة.

أنت كمشاهد ستعيش لحظات متضاربة، ومشاعر مختلفة، والذكاء في تعاطي المخرج مع السيناريو الذي أسهم بكتابته مخرج العمل إلى جانب نادية الخماري. ستعيش في الفيلم مشاعر الفقدان وأنت لا تعلم كيف ماتت الطفلة، لأن الموت واحد، والفاجعة فيه ليست بالطريقة، بل بفكرة عدم الوجود المرتبطة برائحة وضحكات وبكاء ولعب وذكريات وصور وشموع على كعكة عيد الميلاد، كل هذا يختفي، ويبقى طريقة العيش بعد كل هذا الاختفاء لمن زال على قيد الحياة، ويتمثل ذلك بالأب الذي أدى دوره ببراعة الممثل لطفي العبدلي، والأم أنيسة داوود التي كانت هي الطرف التي تعتقد أنه الأقوى في ردة الفعل مقارنة مع اكتئاب الأب وهلوسته أن طفلته مازالت تجلس خلفه في السيارة، وغيرها، ليتضح في النهاية أن هذه الأم نفسها كانت تحتاج الى لحظة كي تبكي وهي التي تغني ضمن فرقة تقدم الفن الجميل.

من المنصف هنا الحديث قليلاً عن بطل الفيلم لطفي العبدلي، الذي كان حديث أغلبية مشاهدي الفيلم، بسبب أدائه المميز وقدرته على مزج المشاعر كافة التي قد تختلج في صدر أي انسان في لحظة واحدة، هذا الممثل الشاب الذي عرفه كثيرون في فيلم حمل عنوان «آخر فيلم» لنوري بوزيد، يؤدي لأول مرة دور الأب، بعد أدوار عدة كانت لها علاقة بالشارع وشكل ما يشبه بـ«الهبيز» المرتبطة دائماً بالرقص والغناء، استطاع العبدلي أن يكون مقنعاً في كل مشهد قدمه، خصوصاً في علاقته بزوجته بعد غياب الابنة، وعلاقته بأمه، وعلاقته بشكله الجديد، وادمانه الكحول، وعجزه الجنسي، ما ينبئ بأن هناك كارثة آتية اذا لم يتم بالفعل أخذ القرار المناسب، مع وجود الزوجة الجميلة والجرئية التي ظهرت عارية في الفيلم، من دون أن يثير الأمر أي اعتراض من قبل الجمهور، علماً أن أيام قرطاج السينمائية ستشهد عرض فيلم نبيل عيوش «الزين اللي فيك» المعروف مسبقاً بكمية المشاهد الحميمية. ونعود مع فيلم «شبابيك الجنة» الذي ينقلك الى مستويات في تطور العلاقة، بكل مراحلها، من حب وشغف، وشجارات خفيفة، وإهمال، وخيانة، وأخيراً الانفصال، ومحاولة بسبب الحب الكبير الى العودة.

الزوجة كانت تنتظر لحظة وقوفها لأول مرة أمام الناس بشكل عام، كي تغني الموشحات، يبدأ جمهورها بالدخول الى مزاج الفرح بكل هذا الطرب النابع من صوت مختلف، وفجأة تصمت لتغني من دون موسيقى اغنية اميمة خليل «عصفور طل من الشباك» التي كانت تغنيها لطفلتها، هنا تدرك تماماً أن المشاعر تحتاج الى لحظة ليس بالضرورة أن تكون آنية، بل من الممكن أن تأتي في ما بعد لكي يكون التعبير عن فكرة الفقدان دقيقاً ويشبه صاحبه.

قبل هذا تعيش رحلة جديدة في عالم الزوج المكلوم، خصوصاً عندما يعرف حقيقة والده الذي اكتشف أنه لم يمت، وأنه ثمرة حب بين والديه انتهت بزواج عرفي واعتراف رسمي به، فكان عليه أن يذهب الى الجنوب لملاقاة والده قبل وفاته، هذه الحكاية وتفاصيلها، تتحدث عن نوع من فقدان آخر، ليس له علاقة بالموت بقدر ما له علاقة بالحياة نفسها وقدرة القسوة فيها على تبديد معانٍ ثابتة مثل الأمومة والأبوة والأخوة وغير ذلك، هو أدرك لحظتها عندما حمل نعش ابيه الى جانب أخوته الذين لا يعرفون ويعتقدون أنه صديق لا أكثر، أنه يجب أن يعود الى حياته ويناضل فيها كي يعيش خصوصاً مع من يحب، فتراه بمشهد مذهل وهو في الشارع وزوجته عائدة بعد لحظة انهيارها الى بيت والديها، يتصل بها ليطلب منها العودة.

مشهد يلخص الكثير من أشياء من الصعب البوح بها، كل شخص في الفيلم له حكاياته وعثراته وأسراره، لكن الحياة وما تحتمله من حب وسعادة تستحق في بعض الأحيان فتح صفحة جديدة، ومحاولة في فهم المعنى الثابت الذي لا تفسير له وهو «الموت».

المخرج فارس نعناع وهو ممثل بالأساس عرف في المسلسل التونسي «مكتوب»، ومخرج عمل ثلاثة أفلام قصيرة وهذا يعتبر الفيلم الروائي الطويل الأول، استعان بمدير التصوير سفيان الفاني الذي حصل على جائزة سيزار في فرنسا عندما كان مدير تصوير فيلم عبدالرحمن سيساكو «باماكو»، أثبت أن كل مشهد في الفيلم لا يمكن الاستغناء عنه، والمشاهد الجريئة المتمثلة في شخصية الزوجة، كان وجودها ضرورة وليس اقحاماً، لذلك من الصعب أن تشعر بما يعتبر خدشاً للحياء.

تويتر