عندما اهتزّت ساحة مالمو السويدية بـ «دبكة شامية»

«أنا مع العروسة».. والإنسانــية أيضاً

تعيش كل لحظة معهم حزنهم ودموعهم وأغانيهم ورقصهم وحبهم للحياة ببساطة. أرشيفية

تتمنى للحظة أن يكون الواقع بسيطاً، كما فسرته تسنيم عندما قالت إن «الشمس واحدة والبحر ايضاً»، وكتبت على الجدار «لا للحدود». تسنيم وهو اسم حقيقي للعروس في فيلم أنتونيو آوغوليارو، وخالد سليمان الناصري، وغابريّله دل غرانده «أنا مع العروسة»، الذي عرض لأول مرة عربياً في الدورة الـ11 من مهرجان دبي السينمائي، وحصل أخيراً على جائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة الثامنة من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي. نعم هم أسماء بشر وليسوا بأرقام، نذكرهم لنحكي حكايتهم مع مغامرة أرادت أن تثبت أن الجنون وحده هو الأقرب إلى الإنسانية، عندما يتعلق الأمر بانتهاك أبسط حقوق البشر في العيش. وكان لهم تتويج مغامرتهم عبر الحدود بدبكة شامية في ساحة مالمو السويدية.

يدور الفيلم حول فلك منار الطفل الذي يتمنى أن يصبح يوماً ما مغنياً للراب، وأبيه علاء، الذي غادر معه من دمشق إلى سواحل صقلية هرباً من الموت إلى موت آخر كاد يقترب من قاربهم الصغير. عبدالله الفلسطيني السوري الذي ترك عمله في جامعة دمشق، ونجا مع قلة بعد غرق قاربهم قرب جزيرة لامبيدوزا عام 2013. أبونوار الأردني وزوجته السورية منى اللذان لا يتمنان سوى أن يبقى أبناؤهم الثلاثة. هم أسماء حقيقية لبشر جمعتهم معارضتهم للنظام السوري ووقوفهم إلى ثورة شعب أراد الكرامة والحرية، وغادروا بلدهم مكرهين خوفاً من موت بطيء اذا ما تم القبض عليهم، أو موت مأساوي بقذيفة أو برميل متفجر. هم أسماء ليسوا بأرقام جمعتهم المصادفة وحدها حول طاولة في مقهى بعد سؤال من عابر هو الشاب عبدالله عن كيفية الوصول إلى السويد بعد وصوله إلى إيطاليا، وكانت هذه المصادفة مع مخرجي العمل.

أنت في هذا الفيلم تتوقع كل شيء، فحكايتهم تشبه حكايات الآلاف من المهجرين واللاجئين السوريين، لكن الفرق فيها أن الأصدقاء الثلاثة المخرجين قرروا أن يجازفوا قانونياً، وينقذوا خمسة أرواح بحيلة تقوم على أساس فكرة لا يمكن أن تساور شكوك ضباط الحدود. وكانت عندما نطق خالد الناصري «من يستطيع إيقاف عرس؟» وهنا يقصد الفرح. فكانت المهمة الثانية بعد احتساء القهوة مع عبدالله، البحث عن العروس، ولم تكن مصادفة أن تكون تسنيم بنت مخيم اليرموك في دمشق، التي غادرته قهراً، بعد أن ضاقت بها السبل، واستقرت في إيطاليا.

لكن كي تتبلور الحبكة لابد أيضاً من وجود أصدقاء إيطاليين، وهم كثر، أرادوا أن يكونوا جزءاً من هذا الفيلم الإنساني، وأن يتحدوا القانون الذي يقف ضد البشر في حقهم بالعيش. إذن، العروس جاهزة والعريس أيضاً والمدعوون، والزفة، كل هذا تم تحضيره في أيام قليلة، بهدف المضي براً وقطع آلاف الكيلومترات للوصول إلى حدود السويد، فهي مجازفة تم تخطيطها عبر خريطة طريق، ولم يكن في الحسبان وجود أي خطة لرد فعل ضباط الحدود.

في هذا الفيلم يوجد كثير من الحزن والفرح معاً، فمشهد حصول المخرج خالد الناصري الذي جاء مصادفة، على الجنسية الإيطالية، أثناء بدء الرحلة لم يكن أقل إيلاماً من أي مشهد، بكى خالد وقال في ما معناه «لأول مرة أحمل في جيبي جنسية، شعور أن ثمة من سيقف في ظهرك ليس بالشيء السهل»،

هذا المشهد وضع يده على جرح يعانيه كل من هم في هذا العرس «المزعوم»، فعبدالله الذي كاد يموت تحت الجثث، لولا قوة جعلت من يده ترتفع لتشاهده فرق الإنقاذ، كانت له حكاية أراد أن يخربشها على الجدران كي تظل ذكرى، لديه قصة الطفلة جنين وهي من مخيم اليرموك أيضاً، التي كان يعلمها عبدالله أغنية عن مدينة جنين الفلسطينية قبل غرقها بيوم واحد، ولديه قصة عائلة بأكملها تحمل لقب «كلش»، أطفال في عمر الورد يصفهم عبدالله بأنهم أجمل أطفال على وجه الأرض، ذهبوا غرقاً أيضاً، سارة وأحمد وغادة، أطفال أيضاً لهم أسماء وأحلام وتحد للوصول إلى بر لم يكن حانياً عليهم، فكان البحر أقرب إلى أرواحهم.

الفيلم مصنوع بشكل قريب إلى الواقع، لكن الأهمية تكمن فيه في رصد المشاعر كلها، من دون تخطيط، فعينا عبدالله والحزن فيهما لا يمكن نسيانهما، وطريقة حديث تسنيم عن ذكرياتها في مخيم اليرموك ورفاقها الذين التحقوا بالجيش الحر، والحلم والشغف، مشاعر تعيدك إلى لحظة كادت توقف القلوب من شدة التعلق بالأمل فيها، الطفل منار، وغناؤه الراب وهو يحكي فلسطين وسورية، ولحظة الموت المحققة تحت القارب الذي نجا فيه وكاد يموت والده، دموع بشر لا يريدون سوى أن يصلوا إلى بر أمان حقيقي في أي مكان على هذه الأرض.

هل هو البحر الأبيض المتوسط الذي جمع كل تلك الجنسيات بين عرب وإيطاليين؟ هل ثمة سر في هذا البحر، الذي جعل من كل فرد تطوع لإنجاح هذه المهمة له علاقة بقلوب عندما تنظر إلى البحر تصرخ بأعلى صوتها وتقول «هذا البحر لي»؟ إذ إن هذا المتوسط هو بحر الحضارات العريقة، وعلى ضفتيه قواسم مشتركة كثيرة، حتى إنه بدا بطلاً في الفيلم، فهو جامع شعوب، وهناك قاسم ثقافي وإنساني عميق يجمع «أهالي» البحر الأبيض المتوسط، فالأبطال الإيطاليون المتطوعون كانوا سبباً في نجاح كل الحكاية. عند جبال غريمالدي سوبريوري على الحدود الإيطالية ــ الفرنسيّة، أو عند مدينة نانسي الفرنسيّة، أو كوبنهاغن الدنماركيّة، يعد موكب العرس مغامرة، يخاف قلبك قليلاً بأن يتعرض لسوء من ضابط حدود شك في الموضوع، لذلك تعيش كل لحظة معهم، حزنهم ودموعهم وأغانيهم ورقصهم وحبهم للحياة ببساطة. طريقة التخطيط نفسها تتمنى لو اعتمدها كبار القادة السياسيين، خطة طريق للحياة للجميع، وتتمنى أن يكون المخرجون الثلاثة قادة، أو أصحاب قرار، فإنسانيتهم النابعة من طبيعة أرواحهم وثقافتهم وانشغالاتهم بين شاعر وصحافي ومصور، هي في الحقيقة التي خلقت كل هذا الشغف والتحدي، ولا يمكن ألا تحبس أنفاسك رعباً تارة وفرحاً تارة، ولا يمكن ألا تكون جزءاً من كاميرا رصدت وجوهاً ومشاعر، من الصعب أن تمر كل هذه الرحلة ولا تتمنى أن تكون جزءاً منها.

ظهر في الفيلم شعراء سوريون وفلسطينيون مثل رائد وحش ومحمد مطرود وتمام هنيدي، وكان لوجودهم نكهة زادت من عدد العيون الحالمة، خصوصاً أن لديهم تجارب سابقة في عملية لجوئهم. من الطبيعي أن تكون متشوقاً لمعرفة إذا ما نجحت خطتهم أم لا. نعم نجحت وبجدارة وبحب وشغف، واستطاع فريق العمل كله أن يصل إلى السويد، وصلوا إلى محطة قطار مالمو السويدية، وعادت النضارة إلى وجوههم، لكن كل وجه سرح مع نفسه قليلاً، ربما أعاد شريط حياة كاملة فائتة، عانقوا بعضهم مع رحيل القطار، وصلوا إلى الساحة الساكنة إلا من وقع أقدامهم التي دبت على الأرض على شكل دبكة من بلاد الشام فرحاً ببلوغ شيء من الأمان.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر