فيلم فاز بجائزة لجنة تحكيم «دبي السينمائي»

«روشميا».. «أبوالعبد» بين نكـبتين

منذ 1959 قرر أبوالعبد أن يبتعد عن المدن بصخبها وضجيجها ورياء سكانها حسب تعبيره ويعيش في «روشميا» هو وزوجته. من المصدر

في الفيلم الوثائقي «روشميا» للمخرج ابن الجولان المحتل سليم أبوجبل، الذي حاز جائزة لجنة تحكيم الدورة الـ11 من مهرجان دبي السينمائي، يأمل المشاهد أن ينتصر يوسف حسان (أبوالعبد) الشخصية الرئيسة في الفيلم، البالغ من العمر 80 عاماً، الذي يعيش مع زوجته السبعينية في كوخ بوادي روشميا في حيفا. يشعر المشاهد بأنها المعركة الأخيرة بين (أبوالعبد) والاحتلال الذي سلب أرضه وبيته يوماً عام 1948، ويريد مرة أخرى سلب كوخه المصنوع من خشب و«صفيح» بعد أن عاش فيه أكثر من 50 عاماً، بحجة بناء سكة حديدية، يعيق استمرارها وجود كوخ يوسف حسان الملقب بـ(أبوالعبد) في الوادي، ذلك العجوز الذي اعتبر ذلك نكبة أخرى.

منذ عام 1959 قرر (أبوالعبد) أن يبتعد عن المدن بصخبها وضجيجها ورياء سكانها، حسب تعبيره، ويعيش في وادي «روشميا» في حيفا هو وزوجته، أمامهما الخضرة والمنظر الطبيعي الخلاب، يأكلان مما تعطيهم الأرض، عاشا سالمين غانمين، لم يحتاجا إلى أحد، ولم يرزقا بأولاد، قلة حيلتهما تجدها حاضرة في كوخهما البسيط المفتقر لكل شيء سوى صوت لف السجائر وغلي القهوة على النار، كل شيء عند (أبوالعبد) يعدّ بدائياً، حتى تدفئة نفسه وزوجته، يجمعان الحطب ويشعلان النار ويجلسان يتسامران، يستقبلان كل من اقترب من كوخهما يرحبان به، لا يكترثان إذا لم تتكرر الزيارة، الأخبار بالنسبة لهما ترف، ولا وجود للتلفاز في حياتهما، هما من جماعة الراديو وأثيره الذي يصل من كل مكان.

تبدأ الحكاية الفعلية بعد أن قرر المخرج أبوجبل، أن يضع المشاهد بقرب حياة العجوزين، تحبهما مرة وتغضب منهما مرات، لكنك لا تستطيع إلا أن تحترمهما، فالتجاعيد التي تملأ وجهيهما، كل خط فيها يحكي قصة، عمرها من عمر الظلم الذي لم يهدأ إلى يومهما هذا، يقول (أبوالعبد): «كان عنا قصر، مش كوخ، وأخدوه منا، ومصرين لسا ياخدوا أشياء كتيرة» تشعر بعنفوانه وغضبه الصادق إذ يشعر بأن الزمان عاد به إلى الوراء عندما كان في صفوف الثوار يوماً وقت حرب 1948، تراه يخطط في آلية التمسك بهذا الكوخ المتهالك، على الرغم من التعويضات المالية التي ستمتحها بلدية حيفا له: «القصة مو بالمال، القصة أني بقدرش أعيش إلا هون». في المقابل، ترى التململ في ردود أفعال زوجته والاستسلام بدا واضحاً على تصرفاتها، إذ بدأت بجمع حاجاتها: «فش حد أقوى منهم، غصبن عنا راح ياخدوا الدار». كما يطالع المشاهد الجرافات وهي تقترب أكثر فأكثر من الوادي، وتحديداً من كوخ (أبوالعبد).

استطاع المخرج بصدق أن يدخل المشاهد إلى مشاعر العجوز بالعمر فقط، الشاب بتصرفاته وعنفوانه وكرامته، استطاع أن يجعله يتعاطف معه ضد كل من يقف في وجهه حتى زوجته التي قررت أن حياتها معه ستنتهي بمجرد ما أن تحصل على التعويض، لأنها اعتقدت أن بيوت حيفا كلها ستفتح أبوابها لاستقبالها، وإذا لم تفعل فبجيبها 40 ألف دولار مستعدة لتشتري بها بيتاً صغيراً وثلاجة وغازاً، هكذا حلمت، بعد أن أقفلت كل الأبواب بوجهها، ووجه زوجها الغاضب الذي يكثر من السباب في آخر أيامه بالكوخ، فهو اعتقد أن العالم كله سيقف إلى جانب قضيته هذه المرة، فلا يمكن خذله مرتين، هكذا أعتقد.

يبدو (أبوالعبد) صادقاً، لا يهمه أي أحد، استغنى بكوخه والراديو الصغير عن العالم، تقف إلى جانبه مشاهداً كثيراً، وتتمنى أن تنتهي دقائق الفيلم ليس تململاً، بل لاعتقادك بأن الحلم سيتحقق والحق سينتصر، لكن عندما يكون الطرف الآخر معتاداً على تلذذ إذاقة الظلم للمقهورين، فأنت دائماً بمعركة خاسرة إلى حين.

المحامي الشاب عوني، الذي يظهر بين مشهد وآخر في الفيلم، هو صديق العجوزين، يرعى أمورهما ويساعدهما كيفما استطاع، وصل هو الآخر بعد أن نطق الحكم بضرورة مغادرة العجوزين المنزل، إلى طريق مسدود، وبدأ يتناقش معهما في الخطوة التالية مع تعويض مالي قدره 80 ألف دولار، مناصفة بين العجوزين.

الدموع التي سالت من عيني (أبوالعبد) حرقت كل شيء، واندمجت بلقطة فنية واقعية بالنار التي أوقدت ببستان (أبوالعبد)، والتهمت القديم من حاجاته، دموع من الصعب أن ينساها المشاهد مع أنه على موعد يومي مع مثل هذه الدموع، لكنها دموع الخسارة مرة أخرى، خسارة البلد، البيت، الأمان، الثقة، والعنفوان، فالمشاهد طوال مدة الفيلم يأمل أن ينتصر العجوز على حكومة المحتل، يأمل أن تنصفه الحياة ولو مرة واحدة، وهو اللاجئ من وادي الصليب وزوجته اللاجئة من قرية باسور، وانتهى دفئهما حين قررت بلدية حيفا بناء شارع عبر الوادي يربط أحياء البحر الأبيض المتوسط بأحياء «جبل الكرمل»، ما يعني هدم كوخ الزوجين، وإجبارهما على العثور على منزل جديد. هو نضال من نوع آخر، لرجل ثمانيني، أمسك السلاح يوماً في 1948، واعتكف بعدها، وقرر أن كرامته فوق أي اعتبار لأنها من كرامة وطن، النضال هنا توقف مع دموع يوسف حسان (أبوالعبد) الحارقة، وعدم قدرته على مناقشة زوجته التي قررت مغادرته لربط زوجها ربما بهذا البيت المتهالك الآيل للسقوط، ربما بعد كل هذه العِشرة سقط من عينيها عندما خسر معركته للمرة الثانية، ولم يعد لديهما بيت.

قوة مشهد الجرافات وهي تهدم الكوخ، في وجود الشرطة «الإسرائيلية» تحيط المكان، لم يكن أقوى منه سوى صوت يوسف حسان (أبوالعبد) وهو يصرخ: «الله يهدمكم.. زي ما هدمتونا»، يجلس ممسكاً عكازه، مستعداً لرحلة أخرى، مع أنه طوال حياته ألمح إلى أنه ينتظر أجوبة عن كل التساؤلات: «أعطوني جواباً واحداً لكل شيء كي أرتاح». فهو كان مستعداً للحرب مرة أخرى، ومن ضمن استعداداته إتيانه بكمامات ضد الغاز، لكنه لم يسعفه أي أحد، ولم يقف إلى جانبه سوى فلاشات الكاميرات الصحافية التي تريد نقل حكايته «خبراً حصرياً». النهاية مفتوحة في الفيلم، فلم نعرف هل طُلق العجوزان، واين ذهبا؟ هل كانت ردة فعل غاضبة من قبل امرأة سبعينية عاد لها عنفوانها عندما حملت الزوج الثمانيني مسؤولية ضياع كوخهما في وادي «روشميا»؟ الحقيقة لا تحتاج إلى جواب، فلا يمكن أن يعيشا بعيدين عن بعضهما بعضاً، حتى لو كان الغضب سيد الموقف، فلا أحد يغضب من وطنه.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

تويتر