تراجيديا ثلوج ودماء «وفق تسلسل للاختفاء»

القتلة يطفون على شاشة «برلين السينمائي»

صورة

القتلة يطفون على الشاشة ويطوفون أرجاء الفيلم، وبالتأكيد يقتلون بكثرة، إنها أفلام يتسيّدها القتل تتنافس في مسابقة الدورة 64 من مهرجان برلين السينمائي، إنه قتل يدفع للضحك أو للتجهم، وله أيضاً أن يكون آتياً من حبكة بوليسية، وهو نرويجي، ويوناني، وصيني، وحين أورد كل ذلك يبدو الأمر أقرب للجنون كأن يتساءل المرء وهل القتل يحمل جنسية؟ وهل هو مدعاة للضحك؟ وهكذا أسئلة لها أن تتضح تباعاً في سياق التقديم للأفلام التي أتناولها هنا.

مقتلة كبرى

المقتلة الكبرى التي ينتهي بها فيلم «وفق تسلسل الاختفاء» لن تكون تراجيدية أبداً، وبطله نيلس سينجو وزعيم العصابة الصربية، الذي سيفقد جميع أولاده بمن فيهم ذاك الذي كان يجرب الطيران الشراعي بعيداً عن أرض المعركة فإنه سيلقى حتفه أيضاً، وينتهي به الفيلم وهو يهوي بطائرته الشراعية، الأمر الذي لا نملك حياله إلا الضحك.

شخصية عجيبة

ستراتوس شخصية عجيبة، كونه يعمل في مصنع للمعجنات ويعمل بشكل رئيس قاتلاً، وكل الأموال التي يتلقاها جراء القتل يضعها في عهدة أخيه الذي يحفر نفقاً يفضي إلى السجن الذي فيه صديقه الذي أنقذه من الموت، حين كان ستراتوس في السجن نفسه، وهكذا سيواصل القتل بدافع تمويل النفق، لكن أخاه سيختفي ومعه أمواله ولن ينجز النفق ليصل السجن، كما أن صديقه سيلقى حتفه داخل السجن.

«فحم أسود.. ثلج رقيق»

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/02/93224.jpg

الحبكة التي يتأسس عليها الفيلم الصيني، دايو يانان، في جديده «فحم أسود.. ثلج رقيق» لا تشبه ما أوردناه في الفيلمين سابقي الذكر، فهنا ستكون البداية مع ظهور أعضاء بشرية في شاحنات محمّلة بالفحم، بحيث أن الجثة نفسها تكون مقطعة على عدد كبير من معامل الفحم الحجري في مقاطعة صينية بحيث يصعب التعرف إليها، ومن هنا سينطلق الفيلم نحو متاهات بوليسية ولغز محيّر يتكشف رويداً رويداً من خلال شخصية الفيلم الرئيسة، زانغ زيلي (لايو فان)، الذي يعمل حارساً في معمل الفحم، لكنه يكتشف اللغز من خلال زوجة أول ضحية، لنكون حيال قصة حب غريبة، فالقاتل لن يكون إلا الزوج الذي يعد في البداية أنه الضحية، وهو يقوم بقتل كل من يحب زوجته ، لكن إبقاء الفيلم ضمن هذا السياق سيحرمه من الكثير الذي حفل فيه، وأول ذلك آليات السرد السينمائية، والأجواء التي يؤسس لها تمضي في مستويات عدة تكون فيها قسوة القتل تمضي، جنباً إلى جنب، مع اكتشافات تتفرع من خط السرد الأساس في الفيلم، ولعل تنقلات الفيلم تمضي وفق التأسيس لمشهد يحمل مفاجآت آتية من التكوين البصري، وتمشي المفاجآت البصرية إلى جانب الدرامية منها، في جمالية خاصة وثرية.

المخرج النرويجي هانس بيتر مولاند في فيلمه «وفق تسلسل الاختفاء» (In Order of Disappearance ) له أن يقودنا إلى القتل المتبوع بالضحك وليس الموت ضحكاً، ولعل الفيلم متأسس على ما أسس له بقوة تارنتينو والأخوان كوين، من دون أن نغفل عن الفيلم خصوصيته أيضاً الآتية من جوانب عدة، أولها البيئة الاستثنائية التي تجري فيها أحداث الفيلم، حيث الثلوج تغمر كامل مساحة الفيلم، وهو فيلم بالأبيض كلون استثنائي يستحوذ بصرياً على من يشاهد الفيلم، ونيلس (ستالن سكارسغارد) يعمل على آليات متعددة مهمتها فتح الطرقات التي تغمرها الثلوج، وهكذا نجد الآلية الضخمة تزيح الثلوج وترمي بها يمنة ويسرة على طرفي الطريق، ولتنطلق الأحداث كلها ومنعطفاتها من لحظة تلقّي نيلس نبأ وفاة ابنه بجرعة زائدة من المخدرات، وهو يقول لضابط الشرطة: «ابني لا يتعاطى المخدرات»، بينما الضابط يقول له: «إن كل الآباء يقولون الشيء نفسه»، لكنه سرعان ما يثبت صحة رأيه، ولكن بعد أن تهجره زوجته، وقد تركت له رسالة لم تكتب فيها حرفاً واحداً، مغلف يفتحه ليقع على ورقة بيضاء، فابنه كما سيكتشف قُتل على أيدي عصابة، وموضوع الجرعة الزائدة تمَّ عن طريقهم، وهناك سيكشف نيلس عن قدرة خارقة في القتل وتصفية أفراد العصابة بدءاً من أصغرهم وبالتوالي، ووفق تسلسل الاختفاء، كما عنوان الفيلم، فلازمة الفيلم الرئيسة تكون بأنه كلما قتل أحدهم تظهر شاشة سوداء عليها اسم المقتول وفوقه علامة الصليب، أو أية علامة أخرى لها أن توضع على القبر، وهكذا سيمسي الأمر بالتوالي، وسيتكرر أيضاً قيام نيلس بالتخلص من كل جثة بالطريقة نفسها عبر لفها بما يشبه السياج المعدني ورميها من على شلال هائل.

ستتعقد الأمور مع وصول ذلك إلى زعيم العصابة الطريف والمأزوم في علاقته مع طليقته وابنته، وستدخل على الخط عصابة صربية، كون زعيم العصابة التي ينتقم منها نيلس لن يتبادر إلى ذهنه أن هذا فعل انتقام شخصي، بل هو من صنيع العصابة الصربية المنافسة في تجارة المخدرات.

لن نخوض في تفاصيل الميتات الكثيرة التي سنشهدها والتي ستكون مدعاة للضحك والطرافة، بما فيها قطع الرأس وكل تلك القسوة التي بإمكان مخرج الفيلم أن يحولها إلى ملهاة، لنكون حيال ملهاة القتل وليس التراجيديا، ولعل القول إن مخرجه مولاند قد قدّم لنا فيلماً خاصاً وجميلاً مرر من خلاله الكثير أمر له من الحقيقة الكثير، والشاشة السوداء التي تحمل أسماء القتلى تزدحم بالأسماء في النهاية وعلامات الصليب.

بالانتقال إلى فيلم المخرج اليوناني يانس أكونوميدس «ستراتوس»،(Stratos) فإن التراجيديا ستطل برأسها، وهنا اطلاق هذا التوصيف ليس إلا على أساس ملمح تراجيدي يتمثل بنهاية الفيلم بميتات كثيرة هنا كما تعريف التراجيدي منذ أرسطو يشمل بطل الفيلم ستراتوس نفسه الذي لا ينتمي إلى طبقة الملوك والرجال العظام، كما التراجيديا أيضاً، لكنه بطل الفيلم المطلق، وقد جسّد شخصيته بأداء مدهش الممثل فانجليس موريكس، هو الذي يحمل ملامح غريبة يمكن وصفها بالقاسية وبغير القاسية، لكنها لا تمنح فسحة للتعاطف، ولعل الحوار في الفيلم أول ما سيستوقف المشاهد، وبالتأكيد الشخصيات التي تتشكل وفق حوارها العجيب والمتشابه بما يجعل من الشخصيات جميعاً متفقة في منطقها الذي يكون ستراتوس خارجاً عن سياقه بصمته الكثير، وهو ليس إلا قاتل محترف لنا أن نتعرف إليه من المشهد الأول، وليكون ستراتوس شخصية عجيبة، كونه يعمل في مصنع للمعجنات، ويعمل بشكل رئيس قاتلاً، وكل الأموال التي يتلقاها جراء القتل يضعها في عهدة أخيه الذي يحفر نفقاً يفضي إلى السجن الذي فيه صديقه الذي أنقذه من الموت حين كان ستراتوس في السجن نفسه، وهكذا سيواصل القتل بدافع تمويل النفق، لكن أخاه سيختفي ومعه أمواله ولن ينجز النفق ليصل السجن، كما أن صديقه سيلقى حتفه داخل السجن، وفي سياق مجاور هناك صديق له وزوجته وابنتهما، لكن صديقه سيهب زوجته لزعيم عصابة ليفي له نصف دينه، لا بل إنه سيهبه ابنته التي لم تتجاوز 12 من عمرها مع موافقة الأم، وهكذا سيقوم ستارتوس بقتلهما، بعد أن يطمئن بأن الابنة عند جدتها، بعد أن يأخذ الوالدين إلى حفلة، ومن ثم يقتلهما في النفق سابق الذكر، ومن ثم يترك نفسه بانتظار من يكلفه بكل مهام القتل بأن يقتله، وهذا ما سيحصل، لكنه سيتلقى موته كما لو أنه ميت قبل أن يموت، كما هو آلان ديلون في فيلم «الساموراي»، حين يمضي للقتل ومسدسه خالٍ من الرصاص، كما لو أنه يريد أن يُقتل فقط. الرهان في فيلم على شخصية «ستراتوس»، وليموت الجميع في النهاية، والتراجيديا هنا محيرة أيضاً، ونحن حيال قاتل نبيل، مصرّ على عمله كما البشر العاديين، أو كما يقول له صديقه «نعرف أنك قاتل، بينما تمثل علينا أنك من الطبقة العاملة».

 

 

 

تويتر