عن فيلم المخرج الياباني آكيرا كوروساوا

«راشومون».. قاطع الطـــــــريق والساموراي والزوجة والحقيقة

أحداث «راشومون» تدور حول قصة واحدة و 3 شخصيات. أرشيفية

من يخبرنا الحقيقة؟ ما الذي حدث حقاً ؟ وما الذي نلفّقه؟ الكل يعتبر الصدق واحدة من خصاله، وما يرويه لا يتصل بالكذب أبداً، وأن زاوية رؤيته هو دون غيره، ومسقطه الذي يرى من خلاله الأحداث يشكل معبراً نحو حقيقة خالصة! كل هذا على اتصال بقدرة الإنسان على سرد ما يراه من دون تدخل من ذاته، وبالاعتماد على ذلك تتدخل عوامل كثيرة متعلقة بالحذف والإضافة، وصولاً إلى النبرة التي تروى بها الأحداث وزاوية الرؤية، والتي تتقرر جميعاً وفق صفات الراوي لا المروي، وهكذا يمكننا القول ودائماً: إن سمعنا قصة على ذمة الراوي، وهذه الذمة ليست حكماً أخلاقياً بقدر ما هي تعبير يختزل كل ما على الراوي أن يوجهه حين يروي.

مقدمة طويلة للدخول إلى فيلم المخرج الياباني الكبير آكيرا كوروساوا Rashomon «راشومون» ،1950 ونحن نستعيده هنا تحت ضربات ما يوجه للحقيقة من عبث، الحقيقة التي تضطهد في كل مكان كما يقول لنا بريشت، ولعل هذا الفيلم المفصلي في تاريخ السينما يشكل معبراً نحو الحقيقة، والتي ستكون واحدة من تجلياته الكثيرة، بدءاً من آليات سرد الفيلم، وصولاً إلى الأدوات والعناصر التي وظفت للغوص عميقاً في خفايا النفس الإنسانية، الأمر الذي يمكن الوقوع عليه في الفيلم بما يتخطى السيناريو إلى زمن اللقطات والإضاءة ولعبة الظل والشمس، وصولاً إلى مونتاج الفيلم.

توضيح ما تقدم له أن يكون أيضاً بكلمات كوروساوا نفسه، مع أنه يقول إنه لا يحب التحدث عن أفلامه «فإذا ما أردت أن أقول شيئاً عن أفلامي، فهذا الشيء موجود فيه. وأعتقد اعتقاداً كافياً أنني لو حاولت أن أعطي بعض الإيضاحات، فهذا شبيه برسم قدم للأفعى كما يقال عندنا»، هذا المقطع مقتبس من كتابه «ما يشبه السيرة الذاتية» الصادر بطبعته العربية عن منشورات المؤسسة العامة للسينما في سورية عام ،1996 ترجمة المخرج فجر يعقوب. طبعاً هذا الكتاب يؤكد حقيقة ما يقوله كوروساوا عن عدم ميله للحديث عن أفلامه، بحيث يأتي ما يرويه عن تلك الأفلام مختزلاً ومكثفاً أميل للحديث عن ما يحيط الفيلم من ظروف انتاجية وحياتية، فهو يكتب كما لو أنه ضفدع محبوس في صندوق تغطي جدرانه المرايا «رغم أنني لست ضفدعاً فإنني أشعر كيف بدأت أتعرق لتوي»، بهذا يقدم كوروساوا كتابه وصعوبة أن يكتب عن نفسه.

بالعودة إلى «راشومون» فإن هناك ما يجدر بنا اقتباسه من سيرته، خصوصاً من الفصل السادس والأخير من الكتاب المعنون «في الطريق إلى راشومون»، فشركة انتاج الفيلم عينت له أثناء تصويره ثلاثة مساعدين لكوروساوا، وثلاثتهم لم يفهموا السيناريو حين قراءته ولمرات عدة، وطلبوا من كوروساوا تفسيرات له هو الذي يعتبره مكتوباً بلغة بسيطة وسهلة، وتعقيباً على ذلك يورد كوروساوا ما يلي ليوضح لمساعديه قصة الفيلم «الطبيعة الإنسانية هكذا، الإنسان مغلق أمام نفسه، حتى حين يتحدث عن نفسه. الأبطال في السيناريو يعبرون عن ماهية الإنسان، عن أنه لا يستطيع ولا يود أن يعيش دون كذب. وهذه الميزة الإنسانية مفضوحة بعمق في السيناريو. أحد الأبطال يسكت عن الحقيقة ليس فقط في الحياة، لكن بعد الموت. وأنتم تؤكدون أن السيناريو غير مفهوم، ولكن النفس الإنسانية غير مفهومة أيضاً. خذوا العالم الداخلي للناس، فهو بحد ذاته أحجية ويقيناً ستفهمون الفيلم».

تتمركز أحداث فيلم «راشومون» حول قصة واحدة وثلاث شخصيات، القصة نفسها ستصير أربع قصص وفقاً لرواتها، فنحن سنقع أول ما نقع على تلك البوابة هائلة الحجم التي اسمها «راشومون» ومطر غزير ينهمر، فإذا بنا حيال شخصيتين الأولى حطاب، والثانية كاهن، وهما يقولان لنا: «إن شيئاً مروّعاً قد حصل»، شيء لم يريا مثله من قبل، هذا ما سيخبران به عابر السبيل الذي يقصدهما ليحتمي من المطر الذي لا يعرف التوقف أبداً، وهناك سيروي لنا الحطاب أنه رأى جثة في الغابة ومضى يخبر الشرطة بها، وذلك منذ ثلاثة أيام، بينما سيقول الكاهن إنه رأى الساموراي وزوجته يمضيان في الغابة في اليوم نفسه، وليصبح أيضاً إلى جانب الحطاب في حضرة الشرطة، لن نرى أي شرطي أو قاضٍ، سيكونان جالسين يتكلمان إلى المحقق وقد تربعا على الأرض، يخاطباه مواجهين للكاميرا، وهناك سيضاف إليهما قاطع الطريق، والذي سيروي قصته بخصوص الساموراي وزوجته، سيقول إنه خدع الساموري بقوله إن لديه سيوفاً خاصة، نصلها من المرايا، وأخذه بعيداً معه ليراها، وهناك همّ بتقييده ومن ثم أحضر زوجته التي وقع في غرامها من النظرة الأولى، وحين همّ باغتصابها فوجئ بأنها ترغب فيه، وبعد أن فرغ منها سألته أن يقتل زوجها لأنها لا تستطيع أن تعيش مع قاطع الطريق وزوجها على قيد الحياة، وبالتالي فإن قاطع الطريق يفك وثاق الساموراي ويسأله أن ينازله، لينتصر قاطع الطريق في النهاية، لكن المرأة تكون قد هربت.

كل ما تقدم نشاهده مستعاداً، وعناصر القصة تبقى منحصرة بين ثلاثة، قاطع الطريق والساموراي وزوجته، وحين تدخل الزوجة مجال السرد فإنها تروي قصة مختلفة عن تلك التي رواها قاطع الطريق، وهي أن قاطع الطريق اغتصبها، وحين تركها مع زوجها فإن هذا الأخير لم يسامحها رغم أنه لم ينطق حرفاً واحداً، لكنه ظل يحدق بها بنظرة مريعة، دفعتها الى الإغماء، وحين استيقظت وجدت زوجها وقد انتحر، بينما هي لم تنجح بأن تنتحر رغم محاولاتها، ورغم أن الساموراي قد مات (قتل أو انتحر) لا فرق، فإن روايته تحضر أيضاً، والتي يفترض أنها الرواية الأكثر صدقاً على اعتبار أن «الموتى لا يكذبون»، كما يرد في الفيلم. وهكذا تكون رواية الزوج أمراً آخر تماماً حين يتم استحضار روحه، فقاطع الطريق اغتصب زوجته، وسألها أن تمضي معه فوافقت، لكن شرط أن يقوم بقتل زوجها الساموراي، فصدم قاطع الطريق من هذا الطلب، حينها جذب الزوجة ووضعها بين يدي الساموراي سائلاً إياه أن يفعل بها ما يشاء، لكن الزوجة تهرب ولا ينجح قاطع الطريق بالتقاطها، وبعدها ينتحر الساموراي. يضاف إلى الروايات الثلاث رواية الحطاب الذي سيقول إنه كذب في البداية، وإنه كان شاهداً على الاغتصاب والقتل ولم يخبر المحقق لأنه كان خائفاً، هنا سيقول ان قاطع الطريق ترجى الزوجة أن تمضي معه، لكن الأخيرة تقوم بتحرير زوجها من الوثاق المقيد به، وليقول زوجها بأنه لا رغبة له بالقتال من أجل امرأة فاسدة، وحينها تلجأ الزوجة إلى الحيلة وتقول لهما إنهما ليسا رجلين حقيقيين، لأنهما لا يتقاتلان من أجل قلب امرأة، وهكذا يمضي قاطع الطريق في قتال الساموراي، ولينتصر ويقتل الأول الثاني.

الفيلم مصاغ وفق التنويع في الأفعال والدوافع والغرائز والأفكار، بما يتسق طبعاً مع تعدد الروايات، كما أن الاستثمار في الظلال، والمسعى لتقديم اضاءة تكاد تبدو كما لو انها اضاءة طبيعية كان يسعى كوروساوا أن يصور بها، إلا أنه لم يفعل بل استعان بالمرايا لتكون معبراً للظلال والشمس المتسربة من بين أغصان الأشجار، أو تصوير الشمس مباشرة حين كان في حينها ذلك محرماً، كونه يتسبب بحروق في الشريط، إلا أن مصور «راشومون» كاذو مياغافا «وجه الكاميرا بشجاعة نحو الشمس وأثبت أن هذا الرأس ترهة ليس إلا»، وها نحن نرى تلك الشمس الساطعة بعد أكثر من 62 سنة على تصويره.

تويتر