عن فيلميها «زهر متأخر» و«كل الحق على فيدل»

جولي كـافـراس.. طفـولة آخر العمر والفقراء الحمر

صورة

يكثر الحديث عن أزمة منتصف العمر، حين يتوقف المرء فجأة وينظر إلى كل تلك السنوات التي مرت، فتبدو حياته في مكان آخر غير الذي كان يحلم به، وأنه أنفق نصف عمره ولم يحقق شيئاً مما يصبو إليه! لكن ماذا عن أزمة آخر العمر حين تبدأ المكابح بالعمل رغم الطاقة المتوهجة لمواصلة المسير، وكل ما حولنا يقول لنا: عليكم أن تتوقفوا، لا داعي لأن تبذلوا مزيداً من الجهود، عليكم بالتقاعد وملازمة البيت وملء أوقات الفراغ المديدة بأي شيء لا يكون منتجا؟

يمكن إدراج ما تقدم تحت عنوان Late Bloomers «زهر متأخر» الذي هو في الوقت نفسه عنوان فيلم جولي كافراس المعروض حالياً في «ريل سينما» دبي، والذي يمكن مشاهدته في سياق ما تقدم، واعتبار هذا الزهر المتأخر فعل ازهار متأخر، بمعنى أن شخصيتي الفيلم تمضيان في عملية تفتح لبراعم ما عادت موجودة أصلاً، وذلك بتتبع ما تصير إليه حياة زوجين حين يصلا إلى تخوم العمر، ولنكون حيال فيلم له أن ينتمي إلى ما صار يعرف بـ«الرومانس الكوميدي»، كما أن تقديم ما يحاصر الإنسان حين يصبح متقدماً في العمر، يأتي سلساً ومتدفقاً في سياق درامي لطيف، يجعلنا نشاهد الفيلم ونمضي معه وفق أفكار متعلقة بالعمر وشجونه.

شاهدت فيلم جولي كافراس هذه المرة دون شفاعة من والدها المخرج الكبير كوستا غافراس، الأمر الذي كان كذلك حين شاهدت أول فيلم من إخراج جولي ألا وهو Blae it On Fidal «كل الحق على فيدل» ،2006 بل كنت هذه المرة في حالة فضول للتعرف إلى ما ستقدمه بعد «كل الحق على فيدل»، الفيلم اللطيف الذي يمرر الكثير مما تصير إليه حياة من يكون والداه ناشطين سياسيين يساريين، ولعل ما سيلي سيكون تناولاً لكلا الفيلمين.

طفولة وأفكار كبيرة

يحتوي فيلم «كل الحق على فيدل» على أفكار كبرى لها أن تقدم ببساطة، وتبدو فيها على مقاس آنا التي تتناوب عليها هذه الأفكار وتقتحم عالمها الطفولي، فوالدها مشغول في المساعدة في حملة سلفادور الليندي الذي حين يفوز بالانتخابات تفرح آنا كما كل من في بيتها الذي يصير مليئاً بالأشخاص الملتحين، وهي تعرف أن والدها أصبح شيوعياً حين تراه قد أطلق لحيته، وحين يقتل الليندي فإن حزنها عليه سيكون من حزن والدها عليه، وعلى الضفة الأخرى فإن عالماً مغايراً للذي أصبح في بيتها سيكون على مواجهة معها، سواء في المدرسة وصديقتها التي تبدو محافظة بالنسبة إليها دون أن تمتلك القدرة طبعاً على وصفها كذلك، كما أن ما يقوله لها جدها وزوجته سيكون مغايراً تماماً لما تعيشه مع والديها، فجدها سيحزن كثيرا على موت الجنرال ديغول، هي التي سمعت من والدها تمجيده لثورة مايو 1968 الطلابية التي أبعدته عن الحكم، كما أن زوجة جدها وحين تسألها عن الشيوعيين ستصفهم بأنهم فقراء يريدون أن يسرقوا أموالها وثيابها، وفي ظل ذلك ستعيش آنا أياماً صعبة، خصوصا حين تشارك مع والديها في مظاهرة تضامنية مع تشيلي، لكن وكما ستمضي أحداث الفيلم وصولاً إلى نهايته فإنها ستمسي متأثرة بوالديها، وستقرر هي دون أن يجبرها أحد على ذلك الانتقال إلى مدرسة جديدة.

أبدأ بالجديد المعروض حالياً، وأقصد «زهر متأخر»، الذي يدفعني أيضاً لاستعادة مقطع مقتبس من حوار مع فيدريكو فيلليني، والذي حين يسئل عن قلقه من الشيخوخة وقد بلغ الـ60 من عمره فإنه يتحدث عن جار له في روما كان في حالة هلع من التقدم في العمر ويستخدم كل ما في مقدوره للحؤول دون ذلك، وقد كان كما يروي فيلليني «يخرج من غرفته، يغلق الباب، يقف بلا حراك لثوان ممسكاً بمقبض الباب، ثم فجأة يعيد فتج الباب ويقحم رأسه داخل الغرفة».

حين يستوضح فيلليني من جاره لماذا يقوم بما يقوم به، يقول له «إنه وبإقحام رأسه على نحو مباغت وسريع بعد إغلاق الباب بلحظة، إنما كان يحاول أن يكتشف من خلال الشم ما إذا كانت هناك رائحة شيخوخة عالقة في الغرفة، بعد ذلك دعاني لأتحقق بنفسي وقال: تنشق.. هل تشم نتانة رجل عجوز؟».

نستعين بهذا المقطع الطويل من حوارات فيلليني بعيداً عن السينما، بل على مقربة من الحياة والشيخوخة التي سنقع عليها في فيلم «زهر متأخر»، واجدين فيه أفضل ما يمكن مقاربة الفيلم به، وصولاً إلا حقيقة فاقعة تقول لنا إننا نهرم فجأة، نكتشف ذلك دون مقدمات، أو كما تقول سيمون دي بوفوار «الشيخوخة تمسك بك على نحو مباغت»، وهذا تماماً ما سنقع عليه في الفيلم، حيث ماري (ايزابيلا روسيليني) ستكتشف أنها بدأت تنسى أشياء كثيرة بما يدفعها لفحص نفسها طبياً خوفاً من الزهايمر، كما ستكتشف أنها أصبحت لا تلفت نظر أحد من الرجال حولها، وقد علت رقبتها التجاعيد، اصبحت تستعين بشال تلفه حولها لتغطي تلك التجاعيد، بينما سيترك أحد الشبان المقعد لها في الباص وهو يعتقد أنه يقوم بعمل محترم وأخلاقي بتخليه عن مقعده لامرأة عجوز.

وفي مسار مواز، يكون زوجها آدام (وليم هارت) مصراً على مواصلة حياته الطبيعية، بعد أن حظي بميدالية ذهبية تكريماً لأعماله في مجال الهندسة المعمارية، وهو في صدد تصميم متحف رغم أنه أمضى حياته في تصميم المطارات، ولتحقيق ذلك وهو في خريف العمر، وفي صراعه مع تقاعده، فإن المهندسين الشباب الذين يعملون في الشركة نفسها التي يعمل فيها سيقومون بمساعدته، وسينشئ لخدمة هذا الغرض شركة ضمن الشركة، وستتحول ماري إلى عامل محبط في حياته وهي لا تذكره إلا بأنهما قد تقدما في العمر، كأن تجعل من الحمام مكاناً خاصاً بالعجزة لا شيء فيه إلا تلك المقابض التي تساعد على النهوض وما إلى هنالك من أشياء تدفعه للهرب من بيته، كما ستصف الميدالية التي حصل عليها بأنها شاهد قبره، وبالتالي سيتحول ليعيش مع هؤلاء الشباب المحيطين به كما لو أنهم ملاذ، ومن ثم سيهجر ثيابه المعتادة ويرتدي الجينز وغيره من ملابس لا تليق بعمره، ويشرب «الريد بول» ويأكل البيتزا، وسيقع بحبال تلك المهندسة الشابة، كما ستقع ماري بحبال مدرب السباحة الشاب.

الحلول التي يتوصل إليها كلاهما وعودتهما إلى بعضهما بعضاً لن تكون بجهود أولادهما واجتماعهم للوصول إلى طريقة يعيدون فيها والديهم إلى بعضهما، بل عبر حدث مأساوي يأتي من جهة أم ماري.

الفيلم بهذه البساطة والأهمية، ويشاهد بالطريقة التي ترونها مناسبة، وأعرف أن هذه جملة ملتبسة أتركها كما هي وانتقل إلى فيلم كافراس «كل الحق على فيدل»، الذي استوقفني كثيراً ذكاء السيناريو، والذي يضعنا مباشرة أمام مرحلة تاريخية فكرية مهمة في تاريخ البشرية نراها من خلال عيني طفلة لم تتجاوز التاسعة من عمرها وتحولاتها هي وفقاً للأفكار التي تحيط بها من كل جانب، تناقضات تلك الأفكار وتباينها، والتي ستعصف بفتاة اسمها آنا لم تتجاوز التاسعة من عمرها والتي ستتخبط بها لكنها ستتغير وعلى شيء من المنطق الدرامي الذي لا يخون الطفولة في مقاربتها تلك الأفكار وتشربها والكيفية التي تتأثر بها حياتها.

فوالدي آنا متحدران من عائلة ارستقراطية، والدها محام سرعان ما ينغمس في العمل السياسي، وعلينا أن نعرف أن أحداث الفيلم تحقع في سبعينات القرن الماضي، ويمسي مناصراً لنضالات شعب تشيلي، لكن يبقى السؤال في الفيلم كيف لذلك أن يحصل وفق رؤية آنا، هي التي تعيش في بيت واسع، ولا تفهم شيئاً مما سيتغير في حياتها، فمربيتها كوبية، تصف الشيوعيين بأنهم «حمر وملتحون وفقراء» وهم سبب كل كارثة في الكون كونها - اي المربية - قد أتت إلى فرنسا بعد استلام فيديل كاسترو ورفاقه الحكم في بلدها، كما أن آنا تدرس في «المدرسة الكاثوليكية» وهي متناغمة مع الأفكار الدينية التي تحشر في رأسها، وغير ذلك من حياة فتاة تمضي في تربية تقليدية غير مشغولة بما سينشغل به والداها، وهي كانت ستبقى كذلك لولا تأثرها بشكل مباشر بتغيرات والديها، حيث ستفقد البيت الواسع ذا الحديقة وستعيش في شقة صغيرة، كما أن والديها سيوافقان على عدم نقلها من مدرستها لكن بعد منعها من حضور دروس الدين، ومع هذه التغيرات سنتابع ما تقوم به آنا للحفاظ على حياتها السابقة، لكن دون حصول ذلك، بل العكس، إذ إننا سنكتشف أنها أصبحت في النهاية على اتساق مع تلك الافكار الكبرى التي كانت تريد تغيير العالم. كل ذلك سنقع عليه مصنوعاً بعناية كبيرة، ولعل هذا المثال يوضح شيئاً من ذلك، فآنا ستسأل جدها من جاء أولا الإغريق أم الرومان، فسيقول الجد الارستقراطي «الإغريق»، وحين تسألهم المعلمة هذا السؤال فإن جميع من في صفها سيقولون الرومان، وهي ورغم معرفتها أنهم الإغريق فإنها ستنضم إليهم وترفع يدها على هذه المعلومة المغلوطة، كونها تكون قد تشربت فكرة أن عليها أن تكون على الدوام مع الجماعة، وأن البشر حين يكونون مجتمعين على رأي فإنهم يكونون أقوى، كما علمتها مربيتها الفيتنامية، وهنا ستصاب آنا بحيرة كبيرة.

مع هذه الأفكار والحوارات التي تمضي برقة وطفولية في ثنايا الفيلم، سنكون حيال واحد من تلك الأفلام التي تقول الكثير دون ارتكاب اي خيانات على صعيد سياق الفيلم، ولعل مجاورة الطفولة لما يحمله الفيلم سيمنحه جمالية خاصة، ولن تنجو من هذه الجمالية الأفكار نفسها، على مبدأ أن ارتباط أي فكرة بالطفولة يجعلها انسانية أكثر وخاضعة لمحاكمات تنتمي تماماً للإنساني الصرف، مهما بدت كبيرة وربما مدمرة وقد أزهقت أرواح كثيرة في سبيلها.

تويتر