Emarat Alyoum

«ثمانية ونصـــف».. النقص هو الـذروة

التاريخ:: 06 يوليو 2010
المصدر: زياد عبدالله - دبي
«ثمانية ونصـــف».. النقص هو الـذروة

الأرقام غير المكتملة مدعاة للتوقف أكثر من تلك الكاملة، وعلى شيء ربما يدفعنا إلى فلسفة الأمر بالقول، كما يقول الشاعر الفرنسي ايف بونفوا «النقص هو الذروة»، ولعل التأمل بهذا السطر لن يطول بنا وهو يقول لنا إن المسعى لاستكمال النقص هو ذروة اللذة، ودافعاً لمواصلة كل شيء في مسعى لكمالٍ لا نصله.

هذه البداية مع الأرقام ومن ثم فلسفتها، تأتي تحديداً من فيلم فيدريكو فيلليني «ثمانية ونصف» (1963)، والذي يقول لنا إن الرقم تسعة متعذر وصوله، إنها ثمانية أفلام ونصف، وهو لم يصل التاسع بعد، ومع غواية هذا الفيلم لكل مشتغل في السينما حول العالم، فإن السيرة الذاتية التي كثفها فيلليني في ذلك الفيلم ستجعل من محاكاته أمراً نلتقطه في أفلام لا حصر ولا عد لها، ولعل البناء الذي يأتي من ذاتية موغلة في عمقها لن تجد في الآخرين إلى مشابهاً لها، أو ذلك الإيهام الذي نقع فيه من حيث التشابه.

من حلم فيلليني الشهير يضعنا الفيلم مباشرة أمام المخرج وسيرته، إنه مارشيلو ماسترياني، لكنه فيدريكو فيلليني والعكس صحيح، ومن ثم تتدافع النساء في حياته، وذلك الفيلم الذي يبقى نصف فيلم وهو عاجز عن استكماله وكل ما حوله يبدو على السطح ملهماً ومشجعاً وجاهزاً لإنجازه، لكن هنا نستعين بكلمات فيلليني نفسه عن سيكولوجية الفنان، عما يعتمل بداخله ويتناوب عليه والذي سيجعله في لحظة خاطفة براقاً منتجاً وملهماً، وفي أخرى محبطاً ومهزوماً، يقول فيلليني «لا أذكر أين قرأت بأن النموذج السيكولوجي المحدد كفنان يتذبذب باستمرار بين شعورين بداخله: شعور مشع بالقوة والأهمية، بالرضا شبه السماوي. والشعور بالوهن والإحباط، الذنب، اللوم، العقاب. هذان الشكلان المتباينان من الشعور هما وجهان متعارضان من حياة الفنان، يختبرهما بوعي تقريباً. أحياناً يرى حياته لعنةً، وأحياناً حالة وجود مرضية وسارة على نحو استثنائي».

مـــلاذ

النساء سيشكلن ملاذ غيدو في «ثمانية ونصف»، استدعاء كل ما كانت عليه النساء في حياته، وفي تتبع لما شكلته كل واحدة منهن في حياته، بدءاً من الطفولة مروراً بالزوجة والعشيقة والملهمة والعاهرة وغيرها من صفات، تشكل في النهاية نبشاً حثيثاً وفرحاً في أعماق المخرج، وكل امرأة توقظ جزءاً أو مرحلة من حياته وملمحاً منه والمرأة كما يراها فيلليني.

يدعونا فيلم فيلليني وقد مضى عليه أكثر من 37 سنة بالمقاربة من الجديد، ودائماً ما يجعل الأبيض والأسود أكثر بياضاً كما هي فتحة العدسة في الفيلم، وهو عرضة دائمة لأن يتسرب إلى أفلام الآخرين، ونجد نتفاً منه هنا وهناك، أو أن يصنع فيلم أنتج العام الماضي بتوقيع روب مارشيل مأخوذ عنه وأقصد هنا فيلم «تسعة»، وبغض النظر عن القيمة الفنية وما يضيفه الفيلم إلى ما قدمه فيلليني، فإنه يستعيد وعبر كوكبة من النجوم مثل دانيال داي لويس وماريون كوتلارد وبنيلوبي كروز وصولاً إلى صوفيا لورين فيلم فيلليني في اطار استعراضي وفي بنية مأخوذة تماماً من فيلمه، ولعله يقدم متعة فرجة ليس لها أن تدخلنا في مقارنة، كون الأمر سيكون ضرباً من الغباء أو الجنون ولن تكون بالتأكيد لمصلحة «تسعة»، بل استسلاماً كاملاً لما يمكن أن يصل بنا هكذا فيلم، وطيف فيلليني يحوم في أغانيه ورقصاته، فهنا الكلمة الفصلى ستكون لـ«الشو»، وسيجد من يكون مهووساً مثلي بـ«ثمانية ونصف»، فيلليني استعراضاً مبهجاً سرعان يوقظ الحنين.

مقاربة

مع المخرج البريطاني بيتر غرينواي سنقع على مقاربة عجيبة لفيلم فيلليني، هذا إن كان كذلك حتى وإن كان عنوان فيلم غرينواي «ثمانية نساء ونصف» 1999 حيث سينسج غرينواي في النهاية عالمه الخاص الذي يختلط فيه العبث بالكوميديا بالعنف، ونمضي خلف استكمال ثمانية نساء ونصف في حياة ملياردير انجليزي تتوفى زوجته، مع علاقته الغربية مع ابنه الذي يكون (أي هذا الأخير) مهووساً بوالده، ولا يستطيع النوم إلا بجانبه، وإن كان قارب الـ30 من العمر.

وإن كان لنا أن نعتبر هنا الفيلم مقاربة لفيلم فيلليني، فإنه يمضي مباشرة خلف بحثه عن النساء بشتى التجليات، ودائماً في قالب غرائبي نعرف غراينوي به، وليكون هنا منحازاً لما يشكل ملهاة عشقية، امرأة تقع عن حصان، وأخرى تنجب الأطفال لمن يود، ومعهن تلك اليابانية التي تريد أن تكون برقة ممثل لا ممثلة، وهكذا بينما الأب وابنه يشاهدان فيلم فيلليني «ثمانية ونصف» ويتبادلون الأحاديث مع المشاهدين عن الجنس، ومن ثم الموت الذي لا يقبل الأب خوض نقاشه كونه مملاً، وليسأل الأب ابنه «هل يلبي المخرج نوازعه الجنسية في الفيلم»؟ ويجيبه الابن بأن أغلب المخرجين يقومون بذلك. نعود إلى ما بدأنا به عن كون «النقص هو الذروة» ونحن نرى كم كان على هذه «النصف» التي تركها فيلليني وصية سينمائية أن يضاف عليها، كما كان هذا النقص مسعى مباركاً للسعي نحو رقم كامل لن يكون«تسعة» بحال من الأحول، لكنه سيبقى (النصف) مؤرقاً وجميلاً بنقصانه.