كلير هولينجوورث.. الفتاة العشرينية التي أعلنت بداية الحرب العالمية الثانية

لم تكن برودة شهر أغسطس من عام 1939 في ألمانيا موعداً لبدء شتاء قاس اعتادت عليه البلاد وحسب، بل كانت دافعاً لكلير، الفتاة البريطانية ابنة 27 عاماً، لتختار هذا التوقيت لاستعارة سيارة صديقها، ومن ثم السفر إلى قرية نائية تقع على الحدود بين ألمانيا وبولندا، وذلك لقضاء وقت جميل في تلك المنطقة، ولأن ضغط عملها خلال الشهرين اللذين سبقا ذلك كان شديداً في جريدة "التلغراف"، وتسبب لها

احتفلت الصحافية كلير هولينجوورث، مؤخراً في نادي المراسلين الحربيين في هونغ كونغ ، بعيد ميلادها الخامس بعد المائة، حيث يمكن اعتبارها عميدة الصحافيين بشكل عالم والمراسلين الحربين بشكل خاص في العالم، واكتسبت شهرتها من كونها أول من أعلن بدء الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد رصدها لحشد كبير من القوات الألمانية من الدبابات والسيارات المدرعة متجهاً إلى بولندا، لبدء احتلالها، ومن ثم انفجار الحرب العالمية الثانية.

بالكثير من الإرهاق، فقد استعدت هولينجوورث لهذه الإجازة، فجهزت كل ما يلزم لإنجاح إجازتها، فوقع اختيارها على تلك القرية الريفية في منطقة الحدود بين ألمانيا وبولندا لقضاء إجازتها وهو قرار درسته بعناية، حيث اعتقدت أن ذلك المكان سيأخذها بعيداً عن صخب الحياة في العاصمة، لتعيش بحرية.

لم تكن كلير تعرف حينها أن تلك النسمات، التي كانت خصلات شعرها تحلق معها من نافذة السيارة خلال طريقها، لا تحمل فقط احتمالات برودة الشتاء وقسوته، وإنما تحمل معها أيضاً ما ينبئ عن استعداد العالم لسنوات طويلة من الجوع، والدمار والموت والقصف والحرق، في واحدة من أكثر حروب التاريخ دموية، والتي استمرت على مدى 5 أعوام، حملت خلالها الكثير من الويلات لمن عاصر تلك الحرب.

فلدى وصولها إلى الفندق، الذي يطل على نهر صغير، ألقت هولينجوورث بحقائبها في غرفتها، لتخرج إلى سوق القرية لشراء فيلم السهرة وبعض الطعام، وخلال تجوالها بالسيارة في القرية سمعت أصوات معدات ثقيلة غير مألوفة، لتطفئ محرك السيارة، لرصد مصدر الأصوات، لتجد مشهداً استدعى من ذاكرتها ذكريات الحرب العالمية الأولى المؤلمة، حيث رأت مئات الدبابات الألمانية على الحدود البولندية، لتدرك حينها أن الحرب العالمية الثانية على الأبواب.

عادت هولينجوورث لغرفتها الفندقية لتنقل الخبر لصديق لها يعمل في السفارة البريطانية في وارسو، والذي بدوره لم يصدق كلامها خلال محادثة هاتفية، لأنه في ذلك التوقيت كانت هناك مفاوضات قائمة بين بريطانيا وألمانيا، فما كان من هولينجوورث إلا قامت بإخراج سماعة الهاتف من الشباك ليسمع صديقها ضجيج جنازير الدبابات النازية.

وفي صباح اليوم التالي، كان استنتاج هولينجوورث العنوان الأبرز لصحيفة "التلغراف"، وكان كالتالي: "1000 دبابة ألمانية تستعد للهجوم على بولندا"، حيث كتبت هولينجوورث تقريراً حددت فيه الأماكن التي ينوي الألمان مهاجمتها في بولندا، معلنة بذلك أول خبر عن بدء الحرب العالمية الثانية، والسبق الصحافي الأقوى لها في مسيرتها المهنية.

واستمرت مسيرة هولينجوورث كصحافية على مدار 50 عاماً، كانت حافلة بالتغطيات الصحافية القوية لأكثر الحروب ضراوة، حيث تواجدت في قلب المنطقة التي شهدت الحرب المشتعلة في بولندا.

كما عملت مراسلة صحافية لتغطية حرب التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، حيث تنقلت في أكثر المناطق خطورة في الجزائر، وهي منطقة القصبة الجزائرية التي عانت ويلات الحرب من تفجيرات وقصف وحرق، وخلال عملها هناك ساهمت في تحرير الصحافي جون واليس من صحيفة "الغارديان"، والذي كان محتجزا لدى "منظمة الجيش السري"، وهي منظمة فرنسية سياسية عسكرية سرية عملها الأساسي يعتمد على الإرهاب، حيث كانت تنشط ضد استقلال الجزائر، وعملت على إفشال الاستفتاء آنذاك، حينها قادت هولينجوورث الفريق الصحافي الذي كان يقوم بتغطية الحرب حينها إلى مكان وجود الرهينة المحتجز، الأمر الذي شكل ورقة ضغط على "منظمة الجيش السري"، ما دفعها إلى إطلاق سراح جون واليس.

وكشفت هولينجوورث في أحد تقاريرها عن واحد من 5 جواسيس هزوا عرش الحكومة البريطانية، في واحدة من أشهر الفضائح التي شهدتها بريطانيا، حيث استطاع أولئك الجواسيس كسب ثقة الحكومة البريطانية، وحصلوا منها على معلومات سرية ودقيقة عن عمل الأجهزة الأمنية فيها وتحركاتها ومخططاتها، ونقلوا تلك المعلومات إلى ضباط في الاتحاد السوفيتي.

كانت هولينجوورث، قبيل تلك الفضيحة، في رحلة عمل في بيروت مع صحافي آخر يدعى دونالد، والذي كان يعمل مراسلاً لصحيفة "الأوبزرفر"، حينها لاحظت كلير اختفاء ذلك الصحافي لمدة 3 أشهر، الأمر الذي دفعها لربط أمر اختفاءه بقضية كيم فيلبي، وهو أحد أهم جواسيس القرن العشرين، والذي كان مسؤولاً كبيراً في جهاز الاستخبارات البريطانية ويعمل جاسوساً في الوقت نفسه لصالح الاتحاد السوفيتي، لتكشف هولينجوورث بعد ذلك أن دونالد ينتمي إلى مجموعة الجواسيس تلك وفر من بيروت إلى روسيا وتوفي هناك.

وعلى مدى أكثر من 30 عاماً عملت كلير مع صحيفة "الغارديان" كمراسلة خارجية لتغطية النزاعات في كل من أوروبا إلى شمال أفريقيا وآسيا، خاصة فلسطين ومصر وإيران وباكستان وفيتنام.

وكونت هولينجوورث، خلال سنوات عملها، شبكة علاقات كبيرة تضمنت جنرالات ووزراء ومسؤولين، وكانت أول صحافي يجري لقاءً مع شاه إيران، وأخر صحافي يجري مقابلة معه بعد سقوطه.

كما احتوت التقارير التي أعدتها كلير على معلومات على درجة عالية من الدقة والحساسية، الأمر الذي دفع جهاز الاستخبارات والأمن البريطاني إلى توجيه تهمة التجسس لهولينجوورث للحصول على تلك المعلومات، كما اتهمها البولنديون بأنها عميلة لصالح جهاز الاستخبارات البريطاني.

وحصاداً لخبراتها، ألفت هولينجوورث 5 كتب عن الحرب وهي "3 أسابيع في بولندا"، و"هناك الأماني خلفي"، و"كتاب العرب والغرب"، "ماو والرجال ضده"، "مذكرات الخط الألماني".

ومازالت هولينجوورث تستمـع بحياتها في  نادي المراسلين الحربيين في هونج كونج، الذي اتخذته مقراً لإقامتها، تستعيد فيه صولاتها وجولاتها الصحافية على خطوط النار حول العالم.
 

تويتر